اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم.       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.
إبهاج المؤمنين بشرح منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين (الجزء الثاني)
210990 مشاهدة
شرح حديث أصاب عمر أرضا بخيبر

وعن ابن عمر قال: أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها. فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها، ولا يورث، ولا يوهب، فتصدق بها على الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف ، لا جناح على من وليها أن يكمل منها بالمعروف، ويطعم صديقا، غير متمول مالا متفق عليه .


قوله: (وعن ابن عمر قال: أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها... الخ):
في هذا الحديث أن عمر -رضي الله عنه- أصاب أرضا بخيبر ؛ فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها، يعني: يسأله ماذا يفعل بهذه الأرض؟ فقال: إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، فقال صلى الله عليه وسلم: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها هذا هو الوقف: (حبست أصلها) تحبيس الأصل (وتصدقت بها) تسبيل المنافع، فأوقفها عمر وجعلها صدقة (لا يباع أصلها)، فالوقف لا يباع إلا إذا تعطل
(ولا يورث)، أي: لا يقتسمه الورثة، (ولا يوهب)، أي: لا يهبه أحد لأحد؛ بل يكون غلة هذه الأرض إذا كان فيها ثمار أو زرع أو فواكه- تصرف في (الفقراء) عموما، وفي (القربى)، أي: يقدم القريب؛ لأن له حقين: حق القرابة وحق الفقر، وفي (الرقاب) يعني: المملوك الذي كاتب سيده، وفي (سبيل الله) يعني: الغزاة، فيجهز منها الغازي ويشترى بها أسلحة للغزو؛ لأن هذا من القرب، (وابن السبيل) وهو المسافر الذي انقطع به الطريق، (والضيف) الذي ينزل عليك.
هكذا بين النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أن الأفضل في الوقف تحبيس الأصل والتصدق بها
وهكذا إذا أوقف إنسان- في هذه الأوقات- دارا أو دكاكين، فإنه يتصدق بأجرتها على الفقراء، ويبني منها المساجد، ويفرش منها المساجد، ويجهز منها الغزاة، ويشتري منها أسلحة للغزاة وما أشبهها، ويجهز منها الموتى، ويعطي منها المسافر المنقطع به الطريق، أو يعطي أقاربه ذوي الحاجة، أو ما أشبه ذلك، ومثلها أيضا- وإن لم تذكر- الأضاحي، فإذا جعل فيها الأضاحي فإنها تنفذ، وذلك لأنها من الصدقات، ومثلها الحج، فإذا قال: يخبئ لي من أجرتها؛ فإن هذا أيضا من القرب.
وقد كانوا قديما يوقفون على تنوير المساجد، وعلى الدلاء التي تجعل على البئر سواء توضع قرب المسجد لمن يتوضأ، أو في وسط البلد لمن يرتوي، فهذا الدلو يعتبر وقف تبرع به صاحبه فله فيه أجر.