(يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه تعبير الرؤيا يرجع فيه إلى معرفة أشياء تختص بالرائي وما يتصل به، وكذا معرفة القرائن والأحوال، ومعرفة معاني الكلمات وما يتصل بها لغة وشرعا وما يعبر به عنها، وهذه الأمور ونحوها يختص بها بعض الناس لانشغالهم بمعرفتها وما يدور حولها، فعلى هذا لا يجوز لكل أحد أن يعبر الرؤى، فقد يفهم فهما بعيدا، وقد يأخذ التعبير من اللفظ لا من المعنى فيخطئ في ذلك. من كان مسافرا ولم يصل المغرب والعشاء فأدرك العشاء خلف إمام مقيم فالمختار أنه يصلي المغرب وحده، فإذا صلاها دخل معه في بقية العشاء، وذلك لاختلاف النية؛ فإن المغرب والعشاء متفاوتان بينهما فرق في عدد الركعات. هذا الذي نختاره. وأجاز بعض المشائخ أنه يدخل معهم بنية المغرب، فإذا صلوا ثلاثا فارقهم وتشهد لنفسه وسلم، ثم صلى العشاء، ولكل اجتهاده الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه
شرح لمعة الاعتقاد
186442 مشاهدة
اعتقاد أهل السنة في القرآن (تابع)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وقال بعضهم إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ فقال الله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ .
وقال بعضهم: هو شعر، فقال الله تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ فلما نفى الله عنه أنه شعر وأثبته قرآنا لم يبق شُبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو حروف، وكلمات، وآيات؛ لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد إنه شعر.
وقال الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فلا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يُدرى ما هو، ولا يُعقل.
وقال الله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تُتلى عليهم.
وقال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلّا الظَّالِمُونَ وقال تعالى: إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون فقال تعالى بعد أن أقسم على ذلك، وقال تعالى: كهيعص فقال تعالى: حم عسق وافتتح تسعا وعشرين سورة بالحروف المقطعة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة حديث صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام: اقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يُقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم يتعجلون آخره ولا يتأجلونه .
وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. وقال علي رضي الله عنه: من كفر بحرف منه فقد كفر به كله.
واتفق المسلمون على عدد سور القرآن، وآياته، وكلماته، وحروفه، ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة، أو آية، أو كلمة، أو حرفا متفقا عليه أنه كافر وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف.
فصل في رؤية الله جل جلاله
والمؤمنون يَرون الله تعالى في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وقال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى، وإلا لم يكن بينهما فرق.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته حديث صحيح، متفق عليه.
وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير.


السلام عليكم ورحمة الله. بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..
ذكرنا أن المعتزلة يقولون: إن القرآن مخلوق قد جعلوه مخلوقا كما أن السماء مخلوقة، والأرض مخلوقة، والإنسان مخلوق، وناقشهم أهل السنة، وبينوا أن المخلوق هو الذي يكون له شبه وشيء ظاهر يُدرك، وأما القرآن فإنه كلام الله، وكلامه من علمه، وهو صفة من صفاته، وجميع صفات الله تعالى من ذاته، ولا يُقال: إنها مخلوقة، وقد فرق الله تعالى بين القرآن وبين المخلوقات قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ ففرق بين المخلوق وبين غير المخلوق، فالإنسان مخلوق قد خلق الإنسان، والقرآن غير مخلوق قد علم القرآن.
ذكر بعض العلماء أن الله تعالى ذكر القرآن في أكثر من خمسين موضع ولم يُقل في موضع إنه خلقه، وذكر الإنسان في نحو سبعة عشر موضعًا وكلها صرح بأنه مخلوق، وفي ذلك رد لقول هؤلاء المعتزلة، ثم ذهب الأشاعرة إلى أن كلام الله هو المعنى ليس الحروف، وجعلوا هذا القرآن عبارة وحكاية عن كلام الله لا أنه نفس كلام الله.
وذلك لأن الأشاعرة أقروا بصفة الكلام لله تعالى، وذلك لأنهم اعتمدوا في إقرارهم على العقل، ولكن لما كان معهم شبه من المعتزلة، وخيل إليهم أن الكلام لا يخرج إلا من اللسان والشفتين فخيل إليهم أن ذلك تشبيه عند ذلك أنكروا أن يكون هذا القرآن عين الكلام، عين كلام الله تعالى، فقالوا: إنه عبارة، وحكاية عن كلام الله لا أنه نفس القرآن الذي تكلم الله تعالى به، وجعل الذي تكلم به إما جبريل وإما محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما كان هذا في قولهم احتيج إلى مناقشتهم، وذلك لشهرتهم، وكثرتهم وتنقلهم في القرون الوسطى؛ يعني: الذين على مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك -غالبا- على أن القرآن عبارة لا أنه عين كلام، فخالفهم أهل السنة، وهم قليل في ذلك الوقت وكانوا يتسترون، فخالفوا هذا المعتقد، وقالوا: إن القرآن عين كلام الله أنه الذي تكلم به كما يشاء.
فأولا يقول المؤلف: -هاهنا- إن القرآن هو هذا الكتاب العربي المنسوخ، المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور الذي هو كتاب قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ وقال تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ .
ذكر الله أن الذين كفروا قالوا: لن نُؤمن بهذا القرآن الإشارة إلى هذا الذي يقرؤه النبي صلى الله عليه وسلم علينا فقالوا: لن نؤمن بهذا القرآن أشاروا إليه، وذكر الله أن بعضهم قال: إِنْ هذا إلا قول البشر، وهذا حكاية عن أحد المشركين أنه قال: إِنْ هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر أي هذا القرآن الذي يقرؤه محمد ليس هو من قول الله، وإنما هو قول البشر أي كلاما تكلم به بشر، ويريدون أنه قول محمد وأنه هو الذي كذبه، وافتراه كما ذكر الله عنه أنهم يقولون: افتراه أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ يعني: اختلقه– فقال الله تعالى: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ .
فنزهه الله تعالى عن أن يكون افتراه يعني كذبه، وقال الله في الذين قالوا إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ قال: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ أي على تكذيبه بهذا القرآن، وادعائه أنه قول البشر.
وقال بعضهم: إنه شعر، وادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر فقال الله تعالى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ فنزه الله تعالى نبيه عن الشعر بقوله: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي ما هذا الذي يقرؤه عليكم إلا ذكر أي تذكير لكم، وقرآن يقرؤه عليكم مبين، وليس هو بشعر، ولا بسحر، ولا بكهانة، ولا مفترى نتلوه وإنما هو عين كلام الله تعالى، فلما نفى الله تعالى عنه أنه شعر، وأثبت أنه قرآن، لم يبقَ شبهة لذي لُب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو حروف، وكلمات وآيات لا يشُك ذو لُب يعني صاحب عقل، وفهم، وإدراك أن كلام الله تعالى هو هذا القرآن المكتوب في المصاحف، وهو كلام عربي، وهو حروف.
قد ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف يعني: تكتب في أول المصحف ألم يعني: تُكتب ألفا وحدها ولاما متصلة بالميم وميما بما بعد ذلك، ومع ذلك جعلها حروف، وكذلك كلمات يعدون الحروف، ويعدون الكلمات، ويُثبِتونها كما جاءت، ويعدون الآيات، فيقولون: سورة البقرة مائتان وست وثمانون آية، وسورة آل عمران مائتان، ويَعُدون السور القصيرة، ويقولون: سورة الكوثر ثلاث آيات، وسورة الفجر ثلاثون آية وأشباه ذلك فيثبتونها آيات.
والآية: هي المقطع الذي له أول وآخر وقد تكون الآية كلمة كقوله: وَالطُّورِ وَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فإنها كلمة واحدة ومع ذلك تعد آية، والشيء الذي ليس حروفا ولا كلمات لا يقول أحد إنه شعر، فدل على أن الذي كذبوا به هو هذا القرآن، وقد تحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله.
قال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ عجزوا عن ذلك، فقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا أي مساعد إذا اجتمعوا كلهم على أن يعارضوه لم يقدروا، ثم تحداهم بعشر سور قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ عجزوا، وتحداهم بسورة فقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ عجزوا عن ذلك، فقد قال الله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا أي لا يقدرون على أن يأتوا، ولو بسورة قصيرة تشابهه في بلاغته وأسلوبه، ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يُدرى ما هو.
لو كانوا لا يدرون ما هو ، وإنما هو شيء قام به بنفس الباري كما يقوله هؤلاء الأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله معنا يقوم بذاته، وأن هذا إنما هو عبارة، وأن كلام الله نفسي لو كان لا يُدرى ما هو لن يقول ائتوا بسورة من مثله.
وقال الله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ذكر الله أنه إذا قرأه عليهم فإن الذين ينكرون البعث، ولا يرجون لقاء الله في الآخرة يقولون ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا يعني غير هذا الذي تتلوه أو بدله أو ائت بغيره مكانه، فقال الله: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ليس لي أن أبدله؛ ذلك لأني لست أنا الذي قلته لكن الله هو الذي قاله وهو الذي أنزله، فليس لي أن أُبدِّلَه من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يُوحى إليه.
أثبت أن القرآن هو الآيات الذي تُتلى عليه وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ يعني تُقرأ عليهم، وهو آيات بينات، وقال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ فأثبت أن القرآن آيات بينات، وأنه محفوظ في الصدور في صدور الذين أوتوا العلم الذين يحفظونه في صدورهم، يُقال: إنهم من الذين أوتوا العلم. والذين يجحدونه، يجحدون آيات الله التي أنزلها على نبيه أولئك هم الظالمون والكافرون هم الظالمون.
وقال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ بعد أن أقسم على ذلك في قوله تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِين .
فأقسم بمواقع النجوم وأخبر بأنه قسم عظيم؛ المُقسَم عليه هو هذا القرآن أنه قرآن عظيم، أنه قرآن كريم، وأنه في كتاب مكنون؛ يعني: أصله في اللوح المحفوظ، وأن قرأه الذي هو هذا القرآن يكون في كتب؛ أي في المصاحف، ومن فضله أنه لا يمسه إلا المطهرون تنزيها له، وأنه تنزيل من رب العالمين، وقال تعالى: كهيعص هذه الحروف أيضا المقطعة في أوائل السور هي من كلام الله تعالى، وكذلك قوله: حم عسق هذه أيضا من كلام الله تعالى حروف مقطعة.
وافتتح الله تعالى تسعا وعشرين سورة بالحروف المقطعة منها ست سور افتتحت بـ الم والسابعة افتتحت بـ المص وست سور افتتحت بـ الر ومنها سورة افتتحت بـ المر ومنها سبع سور افتتحت بـ حم لأن منهم واحدة افتتحت بـ حم عسق وسورتان بـ طسم وسورة بـ طس وبقية السور بحرفين أو بحرف كـ يس و طه و ص و ن و ق يعني منها بحرف واحد كـ ق و ن ومنها بحرفين كـ يس و طه و طس ومنها بثلاث حروف كـ الر و الم ومنها بأربعة حروف كـ المص و المر ومنها بخمسة حروف كـ حم عسق و كهيعص كلها من كلام الله تعالى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قرأ القرآن، فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة ومعنى أعربه يعني: أتقنه، ولم يخطئ فيه؛ يعني جوَّده وأعربه، وأتى بحروفه، حروف واضحة، وكذلك أيضا لم يلحن فيه، وهذا بلا شك دليل على أنه اعتنى بالقرآن أنه اعتنى به عناية ظاهرة.
فكان من آثار هذه العناية: أن الله تعالى يثيبه، ويضاعف أجره فيكون أجره أنه بكل حرف عشر حسنات، وأما الذي لم يتقنه، وإنما قرأه بدون إتقان، ولحن فيه، فله بكل حرف حسنة.
ورد أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ففرق بينهم؛ الماهر بالقرآن والذي أتقنه وحفظه وفهمه، وعرف مدلوله، وعرف دلالاته، فهذا أخبر بأنه مع السفرة الذين ذُكروا في قول الله تعالى: إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ وهم الملائكة.
كذلك ورد أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: اقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يُقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم يتعجلون أجره ولا يتأجلونه اقرءوا القرآن؛ يعني: تعلموه، واجتهدوا في تعلمه واجتهدوا في تأمله، وفي فهمه، واقصدوا بقراءته الأجر في الآخرة، واجتهدوا في معرفته، وفهم معناه قبل أن يأتي قوم يُقيمون حروفه إقامة السهم يعني: فُسِّروا بأنهم الخوارج، فإنه ذكر أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يعني: يقرءونه بألسنتهم، ولا يصل معناه إلى قلوبهم، ويصدق على غيرهم ممن هذا وصفه من بعدهم الذين يجتهدون في إقامة حروفه، وفي إقامة كلماته، يُقِيمونه إقامة السهم، ويجودنه، ويشددونه ويبالغون فيه، ومع ذلك لا يتأثرون به لا يجاوز تراقيهم.
التراقي: هي العظام المحيطة بالعنق؛ يعني أنه لا يصل إلى قلوبهم، وإنما يقرءونه بألسنتهم، ولا يتأثرون به، ولا يعملون به، وصفهم بأنهم يتعجلون أجره أي لا يقرءونه إلا بأجر.
ولا يتأجلونه: أي لا يدخرون أجره في الدار الآخرة، وإنما يقصدون بقراءته مع إتقانه، وتجويده، وإقامة حروفه إقامة السهم يقصدون أجرًا دنيويا، فيقرءونه لأجل أجر يتعجلونه في الدنيا، فأمر بأن يقرأ ويكون القارئ قصد بقراءته الأجر في الآخرة.
ذكر أيضا عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قالا: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه.
ومعنى إعرابه: إتقانه يعني كونه إذا قرأه أتقنه، وجوده، وفهمه، ونطق به نطقا صحيحا؛ ليس فيه خطأ أحب من حفظ بعض حروفه يعني من حفظه مع الغلط، والخطأ الذي فيه فيقول: أيضا علي رضي الله عنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله.
ففي كلام أبي بكر قوله: من بعض حروفه يدل على أنه حروف؛ فكذلك في كلام علي رضي الله عنه في قوله: من كفر بحرف من القرآن فهو دليل على أن هذا القرآن حروف وكلمات.
يقول: اتفق المسلمون على عد سور القرآن، وعد آياته، وكلماته، وحروفه؛ هم يعدون سوره، فيقولون: إن سوره مائة وأربع عشرة سورة أولها الفاتحة وآخرها قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ يعني: بهذا الترتيب الذي في المصحف، فيعدون آياته يقولون: سورة كذا آياتها كذا، ويعدون كلماته، والكلمة: هي اللفظة المفردة. ويعدون أيضا حروفه.
يقول: ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة، أو آية، أو كلمة ، أو حرفا متفقا عليه أنه كافر وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف، أنه يتركب من هذه الحروف التي ينطق بها الإنسان التي هي الحروف العربية.
من جحد منه سورة متواترة حُكم بكفره؛ لأنه أنكر أنه متواتر، من جحد في ذلك آية من آياته ولو قصيرة أو جحد كلمة أسقطها من القرآن وهو يعلم أنها منه، وهذه ليست من القرآن، أو جحد حرفا متفقا عليه إنه يحكم بكفره، وذلك لأن القرآن متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين أظهرهم كلما نزلت آية ألقاها على من حوله، فحفظوها، وكتبوها لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ولا يكتب، وفي ذلك حكمة قال الله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ يعني: لو كان يقرأ في الكتب لارتابوا وقالوا: إنه كتبه من الكتب المتقدمة.
قد أخبر الله تعالى بأنه لا يقرأ الكتب، ولا يكتبها ومع ذلك فإنهم ادعوا أنه كتبه في قولهم: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا كيف اكتتبها وهو لا يقرأ ولا يكتب ومن الذي يمليها عليه.
لما قال بعضهم: إنه أخذها عنه عن أحد الأعاجم، قال الله تعالى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ الذي يتهمونه ويقولون إنه أملاه عليه وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ فدل على أنه عين القرآن، بل إنه عين الكتاب عين الكلام أتى به جبريل ينسخ حكم كل كتاب.. بالغ المؤلف رحمه الله وذلك للرد على أهل زمانه الذين.
يقولون: إن القرآن عبارة وحكاية لا أنه عين كلام الله تعالى، وهذا معتقد الكثير الذين يدعون أنهم على معتقد الأشعري، ويفتخرون بأنهم أشعرية، وأشاعرة، أو ماتريدية، ثم لا يزالون كذلك يظهرون أن القرآن عبارة عن كلام الله لا أنه نفس كلام الله.
ففي حدود سنة إحدى وسبعين من القرن الماضي لما فُتحت المعاهد العلمية استقدم لها بعض المتعاقدين ليدرسوا فيها ذلك المدرس أو بعضهم كانوا على هذا المعتقد، فأظهر للطلاب أن القرآن أخذه جبريل من اللوح المحفوظ لم يسمعه من الله، وأنه عبارة، ليس هو عين كلام الله؛ الطلاب في ذلك الوقت لم يكونوا مبتدئين، فإنهم قد قرءوا على المشائخ أغلبهم، وقد قرءوا في الكتب، فأنكروا عليه فأخذ يجادلهم، يعتقد أنهم جهلة ولكن ظهر عليه قولهم، ثم لم يقنع فترافعوا إلى المفتي الأكبر في ذلك الوقت الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله فعند ذلك ألف رسالة وسماها الصراط المستقيم في إثبات أن القرآن كلام الله الكريم؛ يعني رسالة في نحو أربعين صفحة أو خمسين صفحة أثبت فيها رحمه الله أن القرآن هو عين كلام الله، ونقل كلام العلماء المحققين الذين يقولون: إن القرآن هو عين هذا القرآن حروفه ومعانيه؛ ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف.
ولما اشتهر أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان يثبت أن القرآن كلام الله، وأن الله تعالى يتكلم كلاما حقيقيا أنكر عليه أهل زمانه، وكادوا أن يضللوه، ويكفروه، واستقدموه من دمشق إلى مصر ولما جاء إليهم سريعا على البريد قطع المسافة في سبعة أيام من دمشق إلى مصر سيرا حثيثا، فلما وصل إليهم انتصب له خصم يُقال له: ابن عدوان شافعي المذهب كان على معتقد الأشاعرة، وكان رئيس القضاة ويسمونه قاضي القضاة حنفي يقال له ابن مخلوف يعني أنه مشهور أن له مكانة فأحضر شيخ الإسلام عند ابن مخلوف وتصدى له ابن عدوان وقال: إني أدعي على هذا الحنبلي الفقيه، فقال: كيف تدعي فقال: أدعي عليه أنه يقول: إن الله يتكلم بحرف وصوت، وأنه يقول: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، وأنه على العرش بذاته، وأخذ يذكر مثل هذه الصفات فعند ذلك سألوا شيخ الإسلام عن معتقده، فقال لهم: مَن الحكم الذي نتحاكم إليه؟ فقالوا: هذا القاضي الذي هو قاضي القضاة، فقال: كيف يحكم علي وهو خصم، فإن الجميع خصوم؛ لأني على قول وهم كلهم يخالفوني، فغضب ذلك القاضي، وأمر بسجنه، وبقي في السجن أكثر من سنتين لأجل هذا القول أنه يثبت أن الله تعالى يتكلم، وأن كلام الله تعالى مسموع، واستدلوا بالآيات التي تقدمت وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فيدل على أن هؤلاء متشددون في معتقدهم يعني: هؤلاء الأشاعرة، وأنهم ينكرون على كل من خالف ما يعتقدونه.
ويدل أيضا على أن لكل قوم وارث ذلك لأن الأولين الذين في عهد الإمام أحمد أنكروا عليه لما قال: إن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، فعذبوه وجلد وضرب، وكذلك أيضا شيخ الإسلام في زمانه عذب وسجن وأوذي، وطال مكثه في السجن، لأجل هذا القول أنه يثبت أن القرآن كلام الله حروفه، ومعانيه وهكذا لا يزال في كل زمان من ينكر أن القرآن كلام الله، ومن يدعي أنه مخلوق، ولأجل ذلك أهل السنة رحمهم الله قديما وحديثا اعتنوا بالقرآن، واعتنوا بالعقيدة، وبينوا ما يُقال فيها من القول الصحيح:
الحق شـــمس والعيون نواظر
لكنها تخفى على العميـــان