شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف
شرح مقدمة التفسير لابن تيمية
87508 مشاهدة
من قواعد التفسير أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

وأشباه ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة والآية على العموم، أو في قوم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين، فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم؛ ولهذا يقولون في قواعد التفسير: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولو كان أنه خاص بمن نزل فيه لما اعتبر بالآيات.
ذكر أن عمر رضي الله عنه كان إذا قرأ آيات نزلت في أهل الكتاب يقول: مضى القوم ولم يُعْنَ به سواكم. ففي مثل قول الله تعالى: وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وإن كان خطابا لليهود لكن تحذير لهذه الأمة. وفي مثل قوله: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخطاب لليهود ولكن تحذير لهذه الأمة أن يفعلوا كفعلهم. وفي مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا وإن كانت نزلت في اليهود لكنها تحذير أن يفعل كفعلهم، وأشباه ذلك كثير. فلا يقول مسلم ولا عاقل: إن هذا خاص بمن نزل فيهم، فالله تعالى يقول ذلك حتى يحذرنا أن نفعل كفعلهم، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ لم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بذلك الشخص المعين، وإلا لبطل الاستدلال بالآيات.
لو قيل: إنها تختص بالشخص الذي نزلت فيه فيقال مثلا: آية اللعان نزلت في عويمر فلا أحد يحتاج إلى اللعان فيما بعد، مع أن لفظ الآية عام وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ .
وكذلك قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ نزلت في رجل قتل مسلما ثم ارتد ورجع إلى الكفر، فنزلت فيه هذه الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ولكن الآية على عمومها. كذلك قوله تعالى: إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا فلا يقال: إن هذا خاص بمن نزل فيه.
لم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه، يعني: نوع ذلك الشخص، فآية القتل لا تتناول مثلا الجرح في قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ما تناول الجرح إذا لم يكن هناك قتل إنما تختص بالقتل، وهو نوع من أنواع الاعتداء. وأما إذا جاء الحديث بلفظ أعم فإنه يدخل فيه الجروح، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء يدخل في ذلك الجراح، ويدخل في ذلك قوله: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ يقول: والآية التي لها سبب معين إن كان أمرا أو نهيا فهي متناولة لهذا الشخص وغيره ممن كان بمنزلته إن كان أمرا أو نهيا؛ فإن كثيرا من الأوامر نزلت وقصد بها جنس ذلك الذي نزلت فيه، ومع ذلك فإنها عامة، مثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا نزلت في قوم من الصحابة ظنوا ذلك حسن، وإنما ذلك اتباع لليهود لما كانوا يقولون: راعنا، ويريدون بذلك الرعونة.
وكذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ولو كان سبب النزول خاصا، فإن العبرة بعموم اللفظ، متناولة بذلك الشخص الذي نزلت فيه ولغيره ممن هو بمنزلته، هذا إذا كان أمرا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا .
وكذلك إذا كان نهيا أو أمرا مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ أمر. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ نهي. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فهذا نهي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ وأشباه ذلك كثير، تتناول الشخص الذي نزلت فيه، وتتناول ما كان مثله وأما إذا كانت خبرا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته.
أيضا نزلت آيات مدحا لبعض الصحابة رضي الله عنهم نزل في صهيب قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ لما نزلت تلقاه بعض الصحابة وقال: ربح البيع فكان هذا خبرا، ولكن كل من عمل مثل هذا فإنه داخل في الآية، كذلك قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا نزلت في أحد المنافقين وهي تتناول من كان مثله.