عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا اختار بعض العلماء أن وقت الختان في يوم الولادة، وقيل في اليوم السابع، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر فإلى سبع سنين وهو السن الذي يؤمر فيه بالصلاة، فإن من شروط الصلاة الطهارة ولا تتم إلا بالختان، فيستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب.أما وقت الوجوب فهو البلوغ والتكليف، فيجب على من لم يختتن أن يبادر إليه عند البلوغ ما لم يخف على نفسه
شرح مقدمة التفسير لابن تيمية
86288 مشاهدة
أمثلة للصنف الثاني التفسير بالمثال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ذكر شيخ الإسلام الخلاف بين السلف في التفسير قليل وغالبه ما صح عنهم من الخلاف أرجعه إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذكر أن الاختلاف صنفان، ذكر الصنف الأول أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، وذكر له أمثلة والآن نقرأ الصنف الثاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين وبعد:
فقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه؛ مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ الخبز فأُرِيَ رغيفا وقيل: هذا. فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده .
مثال ذلك ما نقل في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات. فالمقتصدون هم أصحاب اليمين، والسابقون أولئك المقربون.
ثم إن كلا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار.
أو يقول: السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة، فإنه ذكر المحسن بالصدقة والظالم بأكل الربا والعادل بالبيع. والناس في الأموال إما محسن وإما عادل وإما ظالم؛ فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات، والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا.
وأمثال هذه الأقاويل، وكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية؛ وإنما ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له، وتنبيهه به على نظيره. فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطابق، والعقل السليم يتفطن للنوع كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له: هذا هو الخبز.
وقد يجيء كثيرا من هذا الباب، قولهم هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا كأسباب النزول المذكورة في التفسير؛ لقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت وإن آية اللعان نزلت في عويمر العجلاني أو هلال بن أمية وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
وإن قوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ نزلت في بني قريظة والنضير وإن قوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الآية نزلت في بدر وإن قوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الآية نزلت في قضية تميم الداري وعدي بن بداء .
وقول أبي أيوب إن قوله: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ نزلت فينا معشر الأنصار الحديث، ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين في مكة أو في قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو في قوم من المؤمنين.
فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآيات مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق. والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا ونهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت حضرا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته.
ومعرفة سبب النزول تعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ولهذا كان أصح قول الفقهاء أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها.
وقولهم: نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن هذا داخل في الآية وإن لم يكن السبب، ويراد به تارة أن هذا داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول: عنى بهذه الآية كذا.
وقد تنازع العلماء في قول الصاحب: نزلت هذه الآية في كذا هل يجري مجرى المسند؛ كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يدخله في المسند وغيره لا يدخله في المسند، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره. بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه؛ فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند.
وإذا عرف هذا فقول أحدهم: نزلت في كذا لا ينافي قول الآخر: نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما كما ذكرناه في التفسير بالمثال. وإذا ذكر أحدهم لها سببا نزلت لأجله وذكر الآخر سببا، فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين، مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب.
وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه في التمثيلات، هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف.
ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين: إما لكونه مشتركا في اللغة كلفظ: قسورة الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد، ولفظ عسعس الذي يراد به إقبال الليل وإدباره، وإما لكونه متواطئا في الأصل لكون المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين، كالضمائر في قوله: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى وكلفظ الفجر، والشفع، والوتر، وليال عشر، وما أشبه ذلك.
فمثل هذا قد يراد به كل المعاني التي قالها السلف، وقد لا يجوز ذلك.
فالأول: إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنيان، إذ قد جوز ذلك أكثر فقهاء المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من أهل الكلام، وإما لكون اللفظ متواطئا، فيكون عاما إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني.
ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة؛ فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر، وإما معدوم، وقل أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه؛ بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن.
فإذا قال القائل: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا إن المور هو الحركة كان تقريبا، إذ المور حركة خفيفة سريعة. وكذلك إذا قال الوحي: الإعلام، أو قيل: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أنزلنا إليك أو قيل: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ أي: أعلمنا، وأمثال ذلك - فهذا كله تقريب لا تحقيق، فإن الوحي هو إعلام سريع خفيف، والقضاء إليهم أخص من الإعلام، فإن فيه إنزالا إليهم وإيحاء.
والعرب تُضَمِّن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، كما يقولون في قوله: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ أي: مع نعاجه، و مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ أي مع الله ونحو ذلك. والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين، فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها إلى نعاجه.
وكذلك قوله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ضمن معنى يزيغونك ويصدونك، وكذلك قوله: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ضمن معنى نجيناه وخلصناه، وكذلك قوله: يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ضمن يروى بها ونظائره كثيرة.
ومن قال: لَا رَيْبَ لا شك فهذا تقريب، وإلا فالريب فيه اضطراب وحركة كما قال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وفي الحديث: أنه مر بظبي حاقف فقال: لا يريبه أحد فكما أن اليقين ضمن السكون والطمأنينة، فالريب ضده ضمن الاضطراب والحركة ونحوه الشك.
وإن قيل: إنه يستلزم هذا المعنى لكن لفظه لا يدل عليه، وكذلك إذا قيل: ذَلِكَ الْكِتَابُ هذا القرآن، فهذا تقريب لأن المشار إليه وإن كان واحدا فالإشارة بجهة الحضور غير الإشارة بجهة البعد والغيبة، ولفظ الكتاب يتضمن من كونه مكتوبا مضموما ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءا مظهرا باديا، فهذه الفروق موجودة في القرآن.
فإذا قال أحدهم: أَنْ تُبْسَلَ أي تحبس، وقال الآخر: ترتهن، ونحو ذلك لم يكن من اختلاف التضاد، وإن كان المحبوس قد يكون مرتهنا وقد لا يكون، إذ هذا تقريب للمعنى كما تقدم.
وجميع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدا؛ لأن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين.
ومع هذا فلا بد من اختلاف محقق بينهم كما يوجد مثل ذلك في الأحكام، ونحن نعلم أن عامة ما يقر إليه عموم الناس من الاتفاق معلوم؛ بل متواتر عند العامة أو الخاصة، كذا في عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها، وفرائض الزكاة ونُصُبها، وتعيين شهر رمضان والطواف والوقوف ورمي الجمار والمواقيت وغير ذلك.
ثم إن اختلاف الصحابة في الجد والإخوة وفي المُشَرَّكة ونحو ذلك لا يوجب ريبا في جمهور مسائل الفرائض، بل فيما يحتاج إليه عامة الناس، وهو عمود الناس من الآباء والأبناء والكلالة من الإخوة والأخوات ومن نسائهم كالأزواج؛ فإن الله أنزل في الفرائض ثلاث آيات منفصلة: ذكر في الأولى الأصول والفروع، وذكر في الثانية الحاشية التي ترث بالفرض كالزوجين وولد الأم، وفي الثالثة الحاشية الوارثة بالتعصيب وهم الإخوة لأبوين أو لأب. واجتماع الجد والإخوة نادر ولهذا لم يقع في الإسلام إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل والذهول عنه، وقد يكون لعدم سماعه، وقد يكون للغلط في فهم النص وقد يكون لاعتقاد معارض راجح، فالمقصود هنا التعريف بمجمل الأمر دون تفاصيله.


هكذا ذكر الصنف الثاني من اختلاف الصحابة واختلاف المفسرين الذي لا يسمى اختلاف تضاد ولكنه اختلاف تنوع، ثم ذكر له هذه الأمثلة. يقول: أن يذكر كل واحد منهم من القسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل. الاسم العام الذي يدخل فيه بعض أنواعه فيذكر بعض أنواعه على سبيل المثال وعلى تنبيه المستمع على النوع لا على سبيل حد المطابق للمحدود بعمومه وخصوصه. الاسم العام اللفظ الذي يفسر به الله تعالى، مثلا ذكر بعض الأسماء العامة لعدة أسماء، فذكر الجنة بعدة أسماء كالفردوس والنعيم والخلد.

وذكر النار أيضا بعدة أسماء كجهنم والجحيم وسقر والسعير ولظى والهاوية، والمسمى واحد، اسمها الذي يعمها النار، فإذا قيل: ما المراد بجهنم؟ يقال: النار، وإذا قيل: ما المراد بسقر؟ فتقول: اسم من أسماء النار، ولماذا سميت؟ وكيف سميت بهذا؟ لأنها تشتعل على من فيها ولأنها تحرق ونحو ذلك.
وكذلك أسماء الجنة؛ لأن فيها خلودا ولأن فيها نعيما، فهذا الاسم العام يذكر بعض أنواعه على سبيل التمثيل وعلى تنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود أي في عمومه وخصوصه. فإن اللغة فيها أسماء محددة يعني مطابقة للمحدود، كما إذا قيل: ما المراد بالبيع؟ فتفسره وتقول: إنه عقد على موصوف في الذمة أنه مبادلة مال أو منفعة بمثل أحدهما على التأبيد إذا أخذ التعريف، وكذلك إذا قيل: ما المراد بالصلاة شرعا؟ تعرفها بأنها أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم.
ذكر مثالا: سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ الخبز، فأُرِيَ رغيفا وقيل له هذا، فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده، أي ليس الخبز هو هذا الرغيف فقط، بل هذا من جملته أو من أنواعه أو هو ما يشبه هذا، فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده.
مثال ذلك ما نقل في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ هذه الآية فسرها العلماء وأكثروا في ذكر الأمثلة لهؤلاء الذين قسمهم الله تعالى. فمنهم من جعل الظالم لنفسه هو الكافر، ومنهم من جعل الظالم لنفسه هو بعض المؤمنين. وتجد ممن توسع عليها ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين ذكر ذلك استطرادا.
ولكن يترجح أن هؤلاء الثلاثة الظالم والمقتصد والسابق كلهم من أهل الجنة، وإن كانوا يتفاوتون في درجاتها. ومن العلماء من قال: كلهم يعني اثنين من أهل الجنة المقتصد والسابق، وأما الظالم فليس من أهل الجنة بل من أهل النار. وجعلوها مثل التقسيم الذي في أول سورة الواقعة وفي آخرها، فإن الله قال في أولها: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هذه ثلاثة أقسام، معلوم أن أصحاب المشأمة هم أهل النار.
كذلك في آخر السورة في قوله: وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ .
يقول: كأن المؤلف هنا الشيخ رحمه الله اختار أن الجميع من أهل الجنة؛ وذلك لأن الله تعالى أورثهم الكتاب ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا وكلمة اصطفينا تدل على الاختيار كما في قوله: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ وكقوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ .
فالاصطفاء يدل على أنهم من الصفوة، أن هؤلاء هم أهل الصفوة هم صفوة العباد ، وأنهم كلهم أورثوا الكتاب يعني أنهم عملوا بالكتاب، فيكون الظالم لنفسه اسما منهم؛ ولكنه المقصر في العبادات ونحوها؛ وذلك لأنه لا يسلم أحد من ظلم نفسه، ولهذا حكى الله تعالى عن ذي النون أنه قال: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ مع أنه من أنبياء الله ولكن ظلم نفسه ببعض الأعمال.
ومن الأدلة أيضا تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه سأله أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته فقال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وفي رواية كبيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت والحديث في الصحيح كما هو معروف. فعرف بذلك أن الظالم لنفسه من المؤمنين، ولكن هو المقصر، وما ذكر من الأمثلة في هذا وفي غيره إنما هي أمثلة.
يقول الشيخ: ومعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات، مضيع لبعض الواجبات لا لكلها؛ لا يترك الواجبات التي يكفر بتركها، يفعل بعض المحرمات ويترك بعض الواجبات، فلذلك يسمى ظالما.
وأما المقتصد ويتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، وأما السابق فيدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات.
ومنهم من يقول: إن الظالم لنفسه هو الذي يترك السنن ويقتصر على الفرائض ويفعل بعض المحرمات، وأما المقتصد فهو الذي يقتصر على الواجبات ويفعلها ويترك المحرمات، وأما السابق فهو الذي يفعل أو يأتي بالواجبات وجميع المندوبات والمستحبات ويترك المحرمات ويترك المكروهات ويترك الكثير من المباحات التي تشغل عن القربات.
تجدون تفسير ذلك في تفسير ابن كثير وغيره، يقول: فالمقتصدون هم أصحاب اليمين؛ لأن الذين ذكروا في قوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ والسابقون بالخيرات هم الذين ذكروا في قوله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ وفي قوله: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ .
يقول: ثم إن كلا من العلماء يذكرون هذا في نوع من أنواع الطاعات ويذكر الثلاثة فيه، فيقول مثلا: السابق الذي يصلي في أول الوقت والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار، هذا مثال ومعلوم أنه ليس حصرا لهؤلاء.
...ويقول بعضهم: السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم الله في آخر سورة البقرة، فإنه ذكر المحسن بالصدقة والظالم بأكل الربا والعادل بالبيع. ذكر الله تعالى قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ إلى قوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فهؤلاء فُسِّرُوا بأنهم السابقون، وهذا كمثال، ثم ذكر الظالم بقوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ ثم ذكر العادل المقتصد بقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ والناس في الأموال ذكر أنهم ..قسمان: محسن وعادل وظالم، فالمحسن هو السابق والعادل هو المقتصد والظالم هو الظالم.
فسر السابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات، هذا المحسن يعني السابق يفعل الواجبات ويتقرب إلى الله تعالى بفعل المستحبات ويترك المحرمات ويترك أيضا المكروهات ويترك الكثير من المباحات التي تشغله عن الخيرات، وأما الظالم فيدخل فيه آكل الربا أو مانع الزكاة يعني نوعا من أنواع الظالم لنفسه والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة، المقتصد هو الذي يؤدي ما عليه ولا يأكل الربا.
فالحاصل أن هذه تفاسير لهذه الآية وتفاسيرها كثيرة يعني أمثالها. نفى كل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية ذُكِرَ بتعريف المستمع بتناول الآية له يعني يذكر نوعا من أنواعه وتنبيه المستمع به على نظيره، يعني هذا مثال، فإذا قيل: من الأمثلة في الصدقات المقتصد أو السابق هو الذي يتصدق بما عنده، يتصدق على الفقراء والمساكين ونحوهم بما فضل عن حاجته، والمقتصد هو الذي يقتصر على أداء الزكاة وأداء الحقوق الواجبة، والظالم هو الذي يمنع الكثير من الحقوق الواجبة ويؤخر الزكاة ويبخل بما رزقه الله تعالى.
كذلك في الصيام مثلا أن يقال: السابق هو الذي يحفظ صيامه عن اللغو والرفث، ويتقرب إلى الله بصيام ما يقدر عليه من النوافل وما أشبهها، والمقتصد هو الذي يقتصر على صيام الفرض ولا ينقصه، والظالم هو الذي يظلم نفسه بفعل شيء من المعاصي في أثناء الصيام من سباب أو لغو أو سهو أو شتم أو نحو ذلك، ولا يتقرب إلى الله بشيء من فضائل الصيام ولا من نوافله فيكون ظالما لنفسه يعني قصر في حقها.