الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه logo اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا
shape
شرح كتاب بهجة قلوب الأبرار لابن السعدي
119683 مشاهدة print word pdf
line-top
معنى المهاجر

...............................................................................


أما المهاجر فالمهاجر من هجر ما نهى الله عنه. معلوم أن الهجر هو بغض الشيء وتركه والبعد عنه المهاجر الذي ينتقل من بلد الكفر إلى بلد الإسلام؛ لأنه يهجر بلد الكفر ويبغضها ويبتعد عنها فيسمى مهاجرا؛ لأنه هجر الكفر وهجر أهله، ولذلك أيضا يهجر أقاربه العصاة ونحوهم لأنهم أهل معصية بل يهجر كل من عصى الله تعالى، تبغض العاصين وتمقتهم وتبتعد عنهم وتحذر من أن يجروك إلى المعصية فهذا أصل الهجران.
وأما هنا فقال: المهاجر من هجر ما نهى الله عنه يعني: ابتعد عما حرم الله سواء من الأعمال أو من الأعيان أو من الأموال أو من الأشخاص يبتعد عنهم, فيهجر الكلام السيئ، ولو أن هناك من يجر إليه ويدعو إليه, إذا قيل فلان يقول الهجر؛ فلان قال هجرا يعني قال كلاما قبيحا، وإذا قيل فلان هجر الكلام السيئ؛ يعني أبغضه فلا يتكلم بسوء ولا يقدح ولا يعيب ولا يسب ولا يغتاب.
وكذلك إذا قيل هجر المناظر السيئة؛ يعني صان عينيه فلا ينظر إلى الصور الخليعة ولا ينظر إلى الأفلام الفاتنة الهابطة، ولا ينظر إلى النساء المتكشفات سواء بارزات أو ينظر إلى صورهن المرسومة في الصحف ونحوها.
وكذلك أيضا لا ينظر إلى المحرمات التي تعتبر فتنة، يمتثل قول الله تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فلا ينظر إلى أهل الدنيا نظر غبطة, لا ينظر إلى الذين أوتوا زهرة الحياة الدنيا، ويقول: هؤلاء ذو حظ عظيم، هؤلاء الذين أنعم عليهم، هؤلاء الذين متعوا بما متعوا به، فيحتقر حالته ويتمنى مثل أولئك فينظر إليهم نظر إعجاب، هذا يعتبر إذا صد عنهم واحتقرهم ورضي بما قدر الله له صدق عليه أنه هجر ما نهى الله عنه.
وكذلك أيضا يهجر الكلام السيئ؛ فيصون أذنيه فلا يستمع إلى غناء ولا إلى مزامير ولا إلى طرب ولا إلى طبول، وما أشبهها مما قد تمتد إليه الأطماع وتتمناه القلوب وتلتذ له الآذان، لكن يعرف أنه مما نهى الله عنه فيهجره.
وهكذا يهجر بقية المحرمات, المعاملات ونحوها, فيهجر السرقة والغش في المعاملات والمعاملات الربوية، يهجر المكاسب السيئة كالغرر وما أشبهه، والنهب والسلب والاختطاف والاغتصاب للمحرمات وما أشبهها، وكذلك بقية ما نهى الله عنه وهو كثير.
من كان كذلك صدق عليه أنه من المهاجرين؛ أي مهاجر هجرة صحيحة؛ يعني أنه هجر المحرمات بأقواله وبأفعاله، فهذا بيان من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وسبب ذلك قوة الدين قوة الإسلام قوة العقيدة، فإنه إذا امتلأ قلبه بالإيمان، وبمعرفة ربه سبحانه وتعالى، وبمعرفة ما أمر الله به وبمعرفة الثواب والعقاب، فإن هذه المعرفة التي امتلأ بها قلبه تحمله على أن يبتعد عن المحرمات، وأن يفعل الواجبات، تحمله على أنه يصون لسانه عن الغيبة والنميمة، وأذى الجيران وأذى المسلمين، ويصون عينيه ويصون أذنيه ويديه ورجليه وفرجه وبطنه ومكسبه، ويحفظ جميع ما أمر الله تعالى بحفظه، فيكون بذلك من المهاجرين حقا، الذين لهم أجر الهجرة الذين ذكروا في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ينتهي المسلم ما دل عليه هذا الحديث، ويبحث عن الأسباب التي تجعله مسلما حقا ومهاجرا حقا، وليس من شرط الهجرة أن ينتقل من بلاده التي ولد فيها، إذا كان فيها إسلام ظاهر ولو إلى بلاد فيها علم أو فيها خير، إلا إذا قصد الاستفادة من شيء لم يكن موجودًا عنده. والله تعالى أعلم.

line-bottom