إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف
تفاسير سور من القرآن
65787 مشاهدة
معنى قوله: يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ

...............................................................................


يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ؛ أي يهدون الناس بالحق. والمراد بالحق الذي يهدون به الناس هو شرع الله ودينه الذي أنزله على رسله وَبِهِ ؛ أي بالحق المذكور يَعْدِلُونَ يصيبون العدالة المتجافية عن طرفي الإفراط والتفريط؛ فالعدالة المشي على الصواب وطريق القصد المتجافي عن طرف الإفراط والتفريط.
وهذه الآية الكريمة دلت على أن من قوم موسى أمة طيبة على الحق. وهذا المعنى جاء مصرحا به في آيات كثيرة كقوله تعالى: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ .
وكقوله جل وعلا: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وكقوله تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا الآية.
وكقوله في آيات كثيرة: يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ في أهل الكتاب الذين يفرحون بما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم. وقد بين القرآن أن هذه الطائفة من أهل الكتاب التي كانت متمسكة بشريعة موسى وبما في التوراة إذا كانت على ذلك حتى آمنت بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنها تؤتى أجرها مرتين، أجر إيمانها الأول بموسى وكتابه وإيمانها بمحمد وكتابه.
نص الله على هذا من سورة القصص في قوله: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِين أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا الآية. وهذا معنى قوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ .
وقد قدمنا في سورة المائدة أن ظاهر القرآن أن هذه الأمة هي الأمة المقتصدة المذكورة في قوله: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ فهذه الأمة غاية ما نوه الله به عنها أنها مقتصدة.
وهذه الأمة الكريمة التي هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما نوه عنها، وعن كتابها جعل فيها مرتبة أعظم من المقتصدة، وذلك في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ .
فجعل فيه سابقا بالخيرات فوق المقتصد، ووعد الجميع ممن أورثوا هذا الكتاب بقوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ الآية. فآية فاطر هذه تدل دلالة عظيمة واضحة على عظم هذه الأمة المحمدية، وعلى عظيم نعمة هذا الكتاب والرحمة والنور الذي أنزل الله إليها من السماء على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
لأن الله لما قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا -بين أن إيراث هذا الكتاب علامة الاصطفاء وهو الاختيار من الله. ثم قسم هذه الأمة التي اصطفاها الله بإيراث هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام. قال: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ....
... الكتاب هو الفضل الكبير من الله عليكم. ثم وعد الجميع -والأول منهم الظالم لنفسه- بوعده الصادق: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ .
ولم يبق عن الطوائف الثلاثة الموعودة بالجنة ممن لا يخلف الميعاد إلا الكفار؛ لأن الله ذكر في مقابلتهم الكفار في قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ .
وكان بعض العلماء يقول: حق لهذه الواو في سورة فاطر أن تفتدى بماء العينين، يعنى: واو يَدْخُلُونَهَا ؛ لأنها واو شاملة بالوعد الصادق من الله بجنات عدن لجميع هذه الأمة التي ورثت هذا الكتاب، وعلى رأسهم ظالم لنفسه.
وأصح التفسيرات للظالم والمقتصد والسابق بالخيرات في آية فاطر هذه؛ أن الظالم هو الذي يطيع الله تارة، ويعصيه أخرى وهو من الذين قال الله فيهم: خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ والمقتصد هو الذي ينتهي عن المحرمات، ويأتي بالواجبات، ولا يتقرب بالنوافل التي هي غير ترك الحرام أو أداء الواجب. السابق بالخيرات هو الذي يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، ويتقرب إلى الله بالنوافل.
وقد ذكرنا مرارا أن العلماء اختلفوا في السبب الذي قدم من أجله الظالم لنفسه في هذا الوعد العظيم من الله الذي لا يخلف الميعاد في جنات عدن، وما فيها من النعيم؛ فمن أين للظالم لنفسه أن يقدم على السابق بالخيرات والمقتصد؟ فقال بعض العلماء: هذه الآية من سورة فاطر مقام إظهار كرم رب العالمين، وشدة رحمته ولطفه بعباده؛ فقدم الظالم ليلا يقنط، وأخر السابق بالخيرات ليلا يعجب بعمله فيحبط.
وقال بعض العلماء: قدم الظالم لنفسه؛ لأن أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا؛ لأن السابقين قليل، والمقتصدون أقل من الظالمين. وهذا معنى قوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وسيأتي حديث عند قوله: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: هذه لكم وقد أعطي القوم مثلها يعني قوم موسى؛ في قوله هنا: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ولكن آية فاطر هذه التي ذكرناها زادت بالسابق بالخيرات، وبالوعد بالجنات للجميع؛ ففيها من إظهار فضل هذه الأمة ما لم تتناوله إحدى الآيتين هنا في سورة الأعراف.