اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه
تفاسير سور من القرآن
65770 مشاهدة
المظالم التي حرمتها الآية

...............................................................................


وكان بعض العلماء يقول: هذا التكرار، وعطف ما دخل فيما قبله عليه لحكمة، وهذه الحكمة بيانها وتفصيلها أن مظالم الناس وتعدِّي بعضهم على بعض في دار الدنيا راجع إلى ستة أقسام، وهي: أن يتعدى عليه في دينه، أو أن يتعدى على نسبه، أو أن يتعدى على عرضه، أو أن يتعدى على نفسه، أو أن يتعدى على ماله. فهي ستة جواهر: الدين، والنفس، والنسب، والعقل، والمال، والعرض.
فهذه الجواهر الستة هي التي تدور حولها المظالم، قال من قال هذا: الآية جاءت ناهية عن التعدي في جميع هذه الجواهر الست؛ لأن قوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .
هذا تعد على الأنساب؛ لأن الزنا سواء كان ظاهرا أو باطنا تعد على أنساب الناس، وتقذير لفروش الناس؛ لأنه إذا كثر الزنا لم يدر هذا من أبوه، ولم تدر أم هذا من أبوه؛ فضاعت الصبيان، ولم يعرف لهذا أب، فاختلطت الأنساب، وتقذرت الفرش، وضاعت أخلاق المجتمع، وأن النهي عن الفاحشة هو ذب عن الأنساب، وهذا معنى قوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .
وأن قوله: وَالْبَغْيَ المراد به العدوان والظلم سواء عدوت على نفسه فقتلته، أو عدوت على ماله فأخذته، أو عدوت على عرضه فتناولت منه وقذفته. قالوا: والمراد بالإثم هنا الخمر؛ لأنها هي التي تعدو على العقول، وقال الحسن وَالْإِثْمَ الخمر. وكثير من علماء العربية يسمون الخمر إثما، ولهم في ذلك شواهد كثيرة وأشعار معروفة، منها قول الشاعر:
شربت الإثـم حـتى ضـل عقلـي
كذاك الإثــم تـذهـب بالعقــول
يعني الخمر.
وقال بعض العلماء: هذا البيت مصنوع، وبعضهم يقول: هو بيت عربي شاهد. ومنه قول الآخر:
والعياذ بالله يقول:
نشرب الإثـم بالصـواع جهــارا
وتـرى المسـك بيننـا مستعـارا
وهذا كثير في كلام العرب تسمية الخمر إثما.
منه قول الآخر:
نهانا رسـول الله أن نقرب الخنـا
وأن نشرب الإثم الذي يوجب الـوزرا
وقول الآخر:
فرحت حزينا ذاهـب العقل بعدكـم
كأني شربـت الإثـم أو مسني خبـل
قالوا: فقوله: وَالْإِثْمَ هو تحريم للخمر؛ لأنها هي التي تذهب العقول، هو زجر عن إذهاب العقول ومحافظة على العقول. بقي الدين وحده؛ ولأن الأنساب جاءت في النهي عن الزنا، والأنفس والأعراض والأموال جاءت في النهي عن البغي؛ لأنه الظلم على الإنسان في ماله أو نفسه أو عرضه، والمحافظة على العقول جاءت في تحريم وَالْإِثْمَ وهو الخمر.
على هذا القول بقي الدين، والمراد بقوله: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ؛ لأن أعظم إفساد الدين الإشراك بالله، والقول في دين الله بلا علم؛ فهذا أعظم فساد الدين.
قالوا: فعلى هذا تكون الآية الكريمة إنما تداخلت عطوفها وتكررت؛ ليكون قيها الزجر عن الأنفس، والزجر عن الأموال، والزجر عن الأعراض، والزجر عن الأنساب، والزجر عن العقول، والزجر عن الأديان.