القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر.       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه.
مجموعة محاضرات ودروس عن الحج
108273 مشاهدة
المرتبة الثانية: الإيمان

أما أركان الإيمان؛ فإنها العقيدة؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في تفسيره: أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره .
بنى العلماء كتب العقائد على هذه الأركان الستة.
الإيمان بالله تعالى يدخل فيه الإيمان بأنه رب العالمين، وخالق الخلق أجمعين. الإيمان بأنه الإله الحق، وأن كل إله غيره فإلهيته باطلة.
الإيمان بأنه سبحانه هو الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وبأنه موصوف بصفات الكمال، ومنزه عن صفات النقص، وبأن لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى والصفات العلا، وبأنه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ و عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأنه سَمِيعٌ بَصِيرٌ .
وثمرة هذا الإيمان العمل؛ فإن الإنسان إذا آمن بأن اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ؛ علم بأنه يسمع كل كلمة تقولها، يسمع كل خطرة تخطر ببالك، يعلمها، لا يخفى عليه من أمر خلقه شيء، فلا شك أن هذا هو ثمرة هذا الإيمان.
الذي يؤمن بأن الله معه أينما كان يطلع عليه، الذي يؤمن بأن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء من أمر الخلق، الذي يؤمن بأن الله سميع بصير؛ يسمع كل شيء ويبصره، ولا يخفى عليه من عباده خافية؛ كيف يعصيه؟!!
كيف تعصيه وأنت تؤمن بأنه يراك، وأنه قادر على أن ينتقم منك، ويعذبك ويسلط عليك من لا يرحمك؟!! كيف تعصيه؛ وأنت توقن، وتتحقق أنه يطلع على كل شيء، ويعلم ما يجول به قلبك؟!!
تقرأ قول الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وتؤمن بقوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ .
فمن آمن بهذا كله فإنه يطيع ربه؛ ولأجل ذلك يحث العلماء غيرهم؛ فيقولون: آمنوا بالله ورسوله، آمنوا بآيات الله، آمنوا بأسمائه وصفاته، تحققوا واعتقدوا أنه يراكم -دائما-.
يقول في الحديث: أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت ؛ يعني: أنه رقيب على عباده؛ كما في قوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ؛ أي: يراهم ويطلع عليهم، وأنه سبحانه قادر لا يعجزه شيء.
لو تحصن الإنسان لغاية التحصن لن يقدر على أن يتحصن من أمر الله تعالى، ومن تقديره ومن تدبيره. كذلك الإيمان بالكتب التي أنزلها؛ ومنها القرآن؛ الإيمان به التصديق بأنه كلام الله، وأنه منزل، وأنه غير مخلوق، وأن كل صفات الله غير مخلوقة، وأن صفاته من ذاته؛ ومن جملتها كلامه. تؤمن بأن الله تعالى متكلم، ويتكلم إذا شاء، وأن القرآن كلام الله.
قالوا فما القـرآن قلت كلامه
.........................
لا ريب أنه كلام الله عند كل موحد.
كذلك إذا آمنا بالقرآن، وأنه كلام الله، وأنه معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن علينا- بعد ذلك- أن نعمل به؛ أن نتبعه ونتلوه؛ اتبعوا ما أوحي إليكم، اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ .
كذلك الإيمان بالرسل؛ آخرهم محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو خاتم الرسل؛ فالإيمان برسالته كالإيمان بالرسل كلهم.
الإيمان به يستدعي أنه يتبعه ويطيعه، قال الله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .
اتبعوه؛ فالإيمان به يستلزم أن يتبعه، أن يطيعه، ويتبعه ويسير على نهجه.
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ من اتبعه فإنه يكون من المهتدين.
كذلك -أيضا- الإيمان بالملائكة، ومنهم الكرام الكاتبون؛ قال الله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ .
الرقيب والعتيد ملكان يكتبان، يكتب أحدهما الحسنات والآخر السيئات، الذي على اليمين يكتب الحسنات، والذي على الشمال يكتب السيئات.
ويقول تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ؛ يعني: يكتبون حتى أعمال القلب التي يضمرها الإنسان في قلبه؛ يكتبونها.
فيؤمن الإنسان بأنه قد وكل به من يحفظه؛ كما قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ .
هناك ملائكة يحفظونك؛ حتى إذا جاء القدر خلوا بينك وبينه.
وهناك ملائكة يحفظون أعمالك؛ يكتبونها كلها صغيرها وكبيرها؛ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ؛ ما يتلفظ به من كلمة، إِلَّا لَدَيْهِ ؛ أي: إلا عنده رقيب له وعتيد الرقيب والعتيد هما الملكان.
يؤمن بأن الملائكة عباد الله، وأنهم خلقه، وأنهم كرام كاتبون ، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ .
كذلك -أيضا- الإيمان باليوم الآخر؛ أي: البعث بعد الموت. الإيمان بما يكون في الدار الآخرة؛ فإن الدار الآخرة هي مآل الخلق.
الناس في الدنيا خلقوا؛ ليعملوا للآخرة. فمن صدق بأن هناك بعثا ونشورا وجزاء على الأعمال؛ فإنه يعمل لذلك.
يؤمن المسلمون بأنهم بعد البعث محاسبون، أنهم إذا ماتوا يبعثون، وأنهم بعد البعث محاسبون، ومجزيون بأعمالهم؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
هكذا يكون الإيمان بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال.
من آمن وصدق بأنه مبعوث؛ عمل للدار الآخرة. وأما ضعيف الإيمان؛ فإن عمله يكون للدار الدنيا.
فإذا رأيت الذي همه الدنيا، وهمه جمع حطامها، وهمه شهواتها، ولهوها وسهوها ولا يعمل للآخرة؛ عرفت أنه ضعيف الإيمان؛ لأن الإيمان القوي بالآخرة يدفع إلى العمل.
فهذه من أركان الإيمان الإيمان بالبعث بعد الموت، وبالجزاء في الآخرة، وبالمحاسبة على الأعمال.
كذلك -أيضا- من أركان الإيمان، الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى؛ وهو أن يؤمن الإنسان بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وأن الناس لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء ما قدره الله عليه؛ لم يضروه، وإذا اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم يكتبه الله له؛ لم ينفعوه.
فلا يقع إلا ما أراده الله، ومع ذلك فإن المسلم مأمور بأن يعمل وكل ميسر لما خلق له .