الإسلام خير الأديان نظافة وآدابا، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمرا إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم. شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا
تفسير سورة الكهف
28851 مشاهدة
عقاب الله لصاحب الجنتين

فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي أي: في الدنيا وفي الآخرة. في الدنيا: الالتذاذ بطاعة الله، وفي الآخرة: دخول دار كرامة الله أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ؛ يعني: عسى أنك لما افتخرت بهذه الجنة، وبما فيها، وبزهرتها، وزينتها، وبما فيها من الثمار، والأشجار، والأنهار، وظننت أنك لا تعود إلى الآخرة، وقلت: ما أظن أن الساعة قائمة -أن يُهْلِكَهَا الله تعالى ويُتْلِفَهَا، استجاب الله تعالى لما أخبر به، أو لما طلبه صاحبه المؤمن، فأرسل الله تعالى عليها حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ أي: صاعقة من السماء أحرقتها، أو أرسل عليها سيلا عرمرما حملها، ولم يبق لها أثر.
يعني؛ الحاصل: أن الله تعالى أزالها، ولم يَبْقَ فيها شيء، أو غارَ ماؤها، ويبستْ أشجارها؛ استجابةً لدعوة صاحبه، لما أنه لم يتقبل منه النصيحة، ولم يشكر ربه على ما أعطاه من هذا النعيم، فقال له صاحبه: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ظاهره: أنها نزلت عليها عقوبة من السماء، فيذكر في الحسبان الصواعق؛ يعني: صاعقة نهتها، ويدخل في ذلك السيل: الذي يسلطه الله تعالى فيحمل ما في طريقه من القصور، ومن الأشجار، ومن البنايات، ومن الصخور، وما أشبه ذلك، يحمل ذلك كله، ويمكن أن هذه الصائحة في الحسبان: أنه عقوبة، ولو كانت الأسباب موجودة؛ يعني: الأنهار قد تكون جارية، وكذلك الأشجار مزهرة، فيسلط الله عليها جفافا، أو يسلط عليها حريقا، فتبقى لا أثر فيها، إنما هي أثر بعد عين.
حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا الصعيد: هو الأرض المستوية، التي ليس فيها مرتفع، وفي قول الله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا أي: أرضا مستوية، ليس فيها بناء، وليس فيها جبال، وليس فيها أشجار. بل أرضا بيضاء، هكذا أصبحت، تصبح صعيدا زلقا. الزلق: هي الْمَزَلَّةُ، كأنه دعا عليه أن يصيبها مياه تغرقها، فتصير مزلة من صار فيها زلت فيه قدمه زلقا يعني: زَلَّ وسقط.
فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا الماء الذي يتدفق في هذه الأنهار يصبح غورا، إذا غار الماء لا يأتي به إلا الله، قال الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ؛ يعني إن غار الماء؛ يعني: إن قل ولم يبق له أثر، اضمحل الماء الذي في الآبار، فلم يبق له شيء.
ذكر بعض المفسرين: أن رجلا لما قرأ هذه الآية في آخر سورة الملك: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ فقال: تأتي به الفئوس والمساحي؛ أي نحفر إلى أن نصل إليه، ولو كان في أقصى الأرض، افتخر بهذا؛ فأصيب، أصابه الله وعاقبه، فأصبح ماء عينيه غائرا، أصبح وليس في عينيه ماء، لا يبصر!! فقيل له: من يأتيك بالماء الذي في عينيك؟!! لا تقدر أن تَرُدَّها، كان الْأَوْلَى بك أن تعترف أنه لا يأتي به إلا الله..! فلذلك يَسْتَحِبُّ بعضهم إذا قرأت قول الله تعالى: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ أن تقول: يأتي به الله رب العالمين؛ أي: هو الذي يأتي به، إذا غار الماء فَمَنِ الذي يأتي به إلا الله تعالى.
والواقع أن كثيرا جَفَّتِ المياه عندهم، وغارتْ، ولم يبقَ لها أثر، فحفروا إلى أن وصلوا إلى مسافات بعيدة، ولم يستطيعوا أن يدركوا هذا الماء، ولا أن يصلوا إليه؛ فكان ذلك عقوبةً، وإنما يأتي به الله إذا أنزله من ماء السماء.
فيقول في هذه القصة: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ولو حفرت تطلبه لا تستطيع أن تصل إليه؛ لأنه إذا غار اضمحل، ولم يبق له بقية أبدا، فهكذا أخبر الله تعالى عن صاحبه أنه دعا عليه بهذه الدعوة، أو تفاءل بأن الله يحرمه مما أعطاه، لما كفر بآيات الله تعالى وبنعمة الله، يقول: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا .
يقول تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا أحيط بثمره: الثمر: هو ما يجنى من الشجر، أحيط به: إما أنه احترق الثمر، أو أن الشجر لم يثمر أصلا، وبقي ليس له ثمرة مقصودة، وليس فيه منفعة؛ إن الشجر غالبا إنما يغرس لأجل ثمره الذي يحصل منه، فيقول تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فيبس الثمر، أو لم يثمر؛ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ يتأسف على ما أنفق فيها: أنه أنفق فيها أموالا، أنفق فيها بمعنى: أنه حفر الآبار، وبنى القصور، وأجرى الأنهار، وغرس الأشجار، واشترى فيها بما يقدر عليه، وأتلف ما كان عنده في هذا البستان، أو في هذين البستانين، أصبح يقلب كفيه أسفا على ما أنفق فيها وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا هكذا وصفها الله: بأنها خاوية؛ الخاوية: هي التي ليس فيها إلا آثار، ليس فيها شيء من الأشجار، ولا من الثمار، ولا من المساكن، ليس فيها سكن، وليس فيها مستقر، كما قال تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا أي ليس فيها سكان. خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا فالخاوية على عروشها. عروشها معناها: آثارها التي بقيت لها؛ يعني: أسس الحيطان مثلا، أو أصول الأشجار. خاوية: ليس فيها سكن، وليس فيها ماء، ولا أشجار، ولا أزهار، ولا خضرة، ولا أوراق مزهرة، ولا غير ذلك؛ عقوبة من الله تعالى.
فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا هكذا تمنى أنه ما أشرك، وهو دليل على أن عقوبته لأنه أشرك بالله. أشرك بالله يعني: نسب نعمة الله إلى غيره، نسب فضل الله تعالى وما خوله إلى نفسه، وإلى قوته، وإلى حيلته، وتناسى عطاء الله عليه، وتناسى فضله، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ نسي أن ما أعطاه الله فإنه امتحان وابتلاء؛ فلذلك ذكر الله أنه تمنى أنه لم يشرك.
وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هكذا أخبر الله: لم يكن له فئة؛ يعني: قبيلة أو أسرة، أو قوم يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: يردون عنه عذاب الله، يردون عنه ما سلط الله تعالى عليه من العذاب، لم يكن له ولي، ولا ناصر، لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله؛ وذلك لأن من خذله الله فليس له ولي، وليس له ناصر ينتصره، لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا على عذاب الله.
وهل يقدر أحد أن يرد بأس الله إذا جاءه؟ وذلك لأن من أمن بأس الله فإنه ضال مضل، كما قال الله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ فالذين يأمنون عذاب الله، ويأمنون مكره، ويبيتون كأنهم آمنون، يبيتون على شرابهم، وعلى معاصيهم، وعلى مخالفاتهم، آمنين مطمئنين في حياتهم، لا يأمنون أن يأتيهم بأس الله وهم نائمون، كما حصل لهذا الرجل.