إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. اشترط كثير من العلماء أن يكون التيمم بتراب له غبار يعلق باليد، ومنعوا التيمم بالرمل ونحوه مما لا غبار له، وألزموا المسافر أن يحمل معه التراب إذا سافر في أرض رملية، ولعل الصحيح جواز التيمم بالرمل؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" متفق عليه. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك.
تفسير آيات الأحكام من سورة النور
53758 مشاهدة
مكانة أبي بكر رضي الله عنه في الإنفاق

...............................................................................


كان أبو بكر -رضي الله عنه- قد ترك أمواله بمكة ولكنه كان يحسن التصرف، وكان يقدر على التكسب فكان يذهب إلى السوق ومعه شيء يسير من المال؛ فيشتري فيه ويبيع ويتكسب من ذلك ويحصل على قوت له ولعياله، ويحصل أيضا على زيادة على ذلك فيتصدق منه وينفق على ذوي الحاجات، ويعطي المساكين وينفق في سبيل الله ، ولا يخص نفسه بشيء زائد عن إخوانه المسلمين.
وكان دائما سباقا إلى الخيرات رضي الله عنه في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل مرة الحاضرين حوله من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر أنا ثم قال: من تصدق منكم اليوم على مسكين؟ قال أبو بكر أنا ثم قال: من عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر أنا، فقال: ما اجتمعن في مسلم إلا دخل الجنة .
ذكر أنه خرج مرة، ومعه رغيف فرأى مسكينا يتكفف؛ فأعطاه ذلك الرغيف، فصار ذلك الرغيف الذي هو خبزة من بر أو من شعير صدقة، والصدقة يضاعفها الله -تعالى- أضعافا كبيرة.
وكان أيضا كثير النفقة في حديث عمر -رضي الله عنه- يقول: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة بالصدقة فوافق ذلك عندي مالا فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن كنت سابقا له يوما من الدهر؛ فأتيت بنصف ما عندي، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ماذا تركت لأهلك؟ فقلت: تركت لهم مثله، وإن أبا بكر أتى بكل ما عنده؛ فقال: ما تركت لأهلك؟ فقال: تركت لهم الله ورسوله، يقول عمر فقلت: والله لا أسابقه أبدا، -يعني- أنني ما سابقته إلى شيء إلا وتفوق وسبقني.
فكان ينفق على قريبه هذا، وينفق أيضا على غيره من المساكين ومن المهاجرين تبرعا منه؛ لأنه يعرف أن ربه -سبحانه وتعالى- سيخلف عليه ما أنفق وسيقبل ذلك منه ويضاعفه -سيما- وقت المجاعة ووقت الشدة؛ فإنه إذا أنفق في ذلك الوقت كان ذلك أكثر للأجر، وتمر بالمسلمين في وقت أول الهجرة شدائد ومحن وفتن وجوع وجهد، فالذين يتصدقون في تلك الحالة يكون أجرهم مضاعفا أضعافا، كثيرة وقد فضل الله -تعالى- هؤلاء المجاهدين على غيرهم، وكذلك المهاجرين وكذلك المتصدقين قال الله -تعالى- لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ يعني قيل: إن الفتح هنا هو صلح الحديبية أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا يعني من الذين أسلموا بعد ذلك وأنفقوا وقاتلوا، فأجر الأولين أنفع -سيما- المهاجرين الأولين -سيما- أبو بكر -رضي الله عنه- فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ما نفعني مال أحد ما نفعني مال أبي بكر .
ولما أنه وقع بينه وبين بعض الصحابة شيء، حصل فيه شيء من الغضب ومن السباب ونحوه غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر في بعض الأحاديث أنه كان بين أبي بكر وعمر شيء، ثم إنه حصل بينهم شيء من السباب، فندم أبو بكر فجاء إلى بيت عمر ليسترضيه فلم يجده، فجاء وهو شديد الأسف، وأخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- بما كان بينه وبين عمر ندم أيضا عمر وجاء إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- وكل منهما اعترف أنه هو الخاطئ قال عمر أنا الذي أخطأت عليه فليسمح لي، وقال أبو بكر بل أنا الذي أخطأت فليعف عني، فكل منهما طلب العفو من صاحبه، النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ يتكلم لأبي بكر ويقول: هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ يعني أبا بكر أني قلت لكم: إني رسول الله فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت وواساني بأهله وبماله، يقول الصحابي: فما أوذي بعد ذلك أبدا.
فالحاصل أن أبا بكر رضي الله عنه مدحه الله تعالى في هذه الآية بأنه من أهل الفضل ومن أهل السعة، وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ وهذه تزكية من الله تعالى ومدح له، لا يدركه فيها غيره ممن جاءوا بعده، أولو الفضل يعني: إما أن يراد بذلك أن الله فضله، فضله على غيره وزكاه وقدمه على غيره في الفضل، وإما أن يراد بالفضل التفضل يعني كونه ينفق، ويعطي ويتفضل ويجود بما أعطاه الله -تعالى- من الخير يجود بذلك كله فيكون ذلك من الفضل، وأما السعة فيراد به السعة في الرزق، الذين يجدون سعة في الرزق ولو كان شيئا يسيرا؛ فإن من وجد سعة في الرزق أطلق عليه أنه غني إذا كان ماله فيه كفاية له، وفيه زيادة خير ونحوه وقد قال الله -تعالى- لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أي مما وسع الله عليه وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا فالسعة يراد بها التوسعة في الرزق، مما يدل على أن الله -تعالى- وضع في حركته البركة؛ مع أنه هاجر وليس معه مال أو أمواله التي كانت معه في مكة قد أنفقها، وقد اشترى بها المماليك الذين أعتقهم وطلب بذلك أن يزكيه الله -تعالى- وأن يطهر ماله.
أنزل فيه في مكة قول الله -تعالى- وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى هذا نزل في أبي بكر وسيجنبها، يجنب النار الأتقى منهم الذي يؤتي ماله يتزكى، يعني ينفق ماله ويدفعه في وجوه الخير ليتزكى؛ ليزكيه الله أو ليزكي ماله، والمال إذا زكي فإنه تنزل فيه البركة؛ لأن الزكاة سميت زكاة من الزكو الذي هو الكثرة، زكا المال يعني كثر الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى أي ليس لأحد نعمة يكافئها عليه إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ما كان يبتغي إلا رضا الله -تعالى- وَلَسَوْفَ يَرْضَى ذكروا أن أبا بكر بمكة كان عنده أموال طائلة، فكان يشتري العبد إذا أسلم فيعتقه، إذا رأى مملوكا أسلم وعذبه أهله، كما حصل لبلال الذي كان تحت ولاية أمية بن خلف فلما أسلم وعذبوه اشتراه وأعتقه، واشترى أيضا غيره من المماليك وأعتقهم، كان أبوه أبو قحافة يلومه ويقول له: إذا كنت تعتق فاعتق أناسا أقوياء يحمونك وينصرونك، فيقول: إن حمايتي أريد، ما أريد إلا الحماية، أي أن الله -تعالى- هو الذي ينصرني، وهو الذي يحميني.