تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك. إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه.
شرح كتاب بهجة قلوب الأبرار لابن السعدي
77260 مشاهدة
خلق الله للأسباب

...............................................................................


والله تعالى مسبب الأسباب هو الذي خلق الأسباب وجعلها مؤثرة؛ من أدلة ذلك قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ لا شك أن الإنسان ينسب إليه، أنه هو الذي تزوج بفلانة، وأنه هو الذي أحبلها، وأنها ولدت منه، وأن هذا الولد وهذه الأولاد أنهم ينسبون إليه، ولكن ليس هو الذي خلقهم، الله هو الذي قدر إيجادهم، هو الذي خلقهم وقدر خلقهم، ليس بقوة الإنسان ولا بقدرته، ولا بتمكنه، بل بإيجاد الله تعالى، فلو شاء لجعلهم كلهم إناثا أو لأخرجهم كلهم أمواتا أو نحو ذلك، فليس للإنسان تمكن في أن يخلق أولاده، ولو كان ذلك إليه لجعلهم ذكورا، ولسوى خلقهم وجعلهم في أحسن خلق أو نحو ذلك.
كذلك قول الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أخبر الله تعالى بأنهم يحرثون أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ولكن الله تعالى هو الذي مكنهم، أولا أعطاهم القوة التي يتمكنون بها من هذه الأفعال، يتمكنون بها من حرث الأرض، لو شاء لشل حركاتهم، ولو شاء لجعل الأرض صماء لا تنبت أو صخرية، أو نحو ذلك، فلما جعل لهم هذه القوة يحرثون بها بأيديهم أو بما يصنعونه من الماكينات ونحوها، كان ذلك من الله وتوفيقه؛ فلذلك نسب الفعل أولا إليهم: مَا تَحْرُثُونَ ثُمَّ قَالَ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أأنتم تحرثونه تبذرونه بالأرض وتسقونه، والله تعالى هو الذي يسر أسبابه، فهو الذي أوجد لكم هذا الماء الذي تسقون منه، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا لا ينبت، ولو شاء لأغاره وأعدمه، كما في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ .
وأخبر الله تعالى عن صاحب تلك الجنة البستان الذي ذكر في سورة الكهف، في قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا فكذلك يقول: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ أي ظللتم تتأسفون على فعلكم، وتقولون: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ فالفعل من الله تعالى، وإن كان للإنسان حركة وله إرادة وله فعل ينسب إليه؛ فلذلك نقول: إن على الإنسان أن يعمل بما أقدره الله عليه؛ فيعترف بأن الله هو الذي أعطاه العقل وهو الذي أعطاه القوة، وهو الذي أعطاه السمع والبصر، وهو الذي أقامه على قدميه، وهو الذي أعد يديه وجعل فيهما هذه القوة، وهو الذي بسط هذه الأرض وسخرها، وهو الذي جعلها قابلة للنبات، وهو الذي جعل فيها هذا الماء الذي تروى به وتسقى به، وهو الذي أيضا جعلها منبتة قابلة للنبات.
مع أنه تعالى فاوت بين الأرض؛ فأنت ترى قطعة من الأرض سبخة لا تنبت ولا تمسك الماء، وترى قطعة أخرى صخرية لا تقبل الماء ولا تنبت، وتجد أرضا أخرى رملية وأخرى ترابية وأخرى جبلية، وكل ذلك بخلق الله تعالى؛ فيعترف الإنسان بأن كل ما في الوجود، فإنه خلقه وتكوينه وكان بقضائه وبقدره.