الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك. إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.
شرح مختصر زاد المعاد
31621 مشاهدة
كيفية سجوده صلى الله عليه وسلم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: فصل: ثم كان يكبر، ويخر ساجدا، ولا يرفع يديه، وكان يضع ركبتيه، ثم يديه بعدهما، ثم جبهته وأنفه هذا هو الصحيح، فكان أول ما يقع منه على الأرض الأقرب إليها فالأقرب، وأول ما يرتفع الأعلى فالأعلى، فإذا رفعَ رفع رأسه أولًا ثم يديه ثم ركبتيه، وهكذا عكس فعل البعير، وهو نهي عن التشبه بالحيوانات في الصلاة، فنهى عن بروك كبروك البعير، والتفات كالتفات الثعلب، وافتراش كافتراش السبع، وإقعاء كإقعاء الكلب، ونقر كنقر الغراب، ورفع الأيدي وقت السلام كأذناب الخيل الشمس، وكان يسجد على جبهته وأنفه دون كور العمامة، ولم يثبت عنه السجود عليه، وكان يسجد على الأرض كثيرا، وعلى الماء، والطين، وعلى الخمرة المتخذة من خوص النخل، وعلى الحصير المتخذ منه، وعلى الفروة المدبوغة، وكان إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض، ونحا يديه عن جنبيه، وجافاهما حتى يرى بياض إبطه -صلى الله عليه وسلم- وكان يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه، ويعتدل في سجوده، ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، ويبسط كفيه وأصابعه، ولا يفرج بعضهما ولا يقبضهما.
وكان يقول: سبحان ربي الأعلى وأمر به، وكان يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ويقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وكان يقول: اللهم لك الحمد، اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين، وكان يقول: اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره.
وكان يقول: اللهم اغفر لي خطاياي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفري لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت، وأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود وقال: إنه قمن أن يستجاب لكم فصل: ثم يرفع رأسه مكبرًا غير رافع يديه، ثم يجلس مفترشا يفرش اليسرى ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويضع يديه على فخذيه ويجعل مرفقيه على فخذيه وطرف يده على ركبته، ويقبض اثنتين من أصابعه، ويحلق حلقة ثم يرفع أصبعه يدعو بها ويحركها، ثم يقول: اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني، هكذا ذكره ابن عباس عنه، وذكر حذيفة عنه أنه كان يقول: رب اغفر لي ثم ينهض على صدور قدميه وركبتيه معتمدًا على فخذيه، فإذا نهض افتتح القراءة، ولم يسكت كما يسكت عند الاستفتاح، ثم يصلي الثانية كالأولى إلا في أربعة أشياء: السكوت والاستفتاح وتكبيرة الإحرام وتطويلها.
فإذا جلس للتشهد وضع يده اليسرى على فخذه الأيسر، ويده اليمنى على فخذه الأيمن وأشار بالسبابة، وكان لا ينصبها نصبًا ولا ينيمها بل يحنيها شيئًا يسيرًا ويحركها، ويقبض الخنصر والبنصر ويحلق الوسطى مع الإبهام، ويرفع السبابة يدعو بها ويرمي بصره إليها، ويبسط الكف اليسرى على الفخذ اليسرى، ويتحامل عليها.
وأما صفة جلوسه فكما تقدم بين السجدتين سواء، وأما حديث ابن الزبير الذي رواه مسلم كان إذا قعد في الصلاة جعل قدمه الأيسر بين فخذه وساقه، وفرش قدمه الأيمن، فهذا في التشهد الأخير، فذكر ابن الزبير أنه يفرش اليمنى، وذكر أبو حميد أنه ينصبها، وهذا -والله أعلم- ليس باختلاف؛ فإنه كان لا يجلس عليها بل يخرجها عن يمينه، فتكون بين المنصوبة والمفروشة، أو يقال: كان يفعل هذا وهذا، فكان ينصبها وربما فرشها أحيانًا وهو أروح لهما، ثم كان يتشهد دائمًا في هذه الجلسة، ويعلم أصحابه أن يقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وكان يخففه جدا كأنه يصلي على الرسغ، ولم ينقل عنه في حديث قط أنه كان يصلي عليه وعلى آله فيه، ولا يستعيذ فيه من عذاب القبر وعذاب جهنم وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال. ومن استحبه فإنما فهمه من عمومات قد تبين موضعها وتقييدها بالتشهد الأخير.
ثم كان ينهض مكبرًا على صدور قدميه وعلى ركبتيه معتمدًا على فخذيه، وفي صحيح مسلم وبعض طرق البخاري أنه كان يرفع يديه في هذا الموضع، ثم يقرأ الفاتحة وحدها، ولم يثبت عنه أنه قرأ في الأخيرتين بعد الفاتحة شيئًا.
ولم يكن من هديه -صلى الله عليه وسلم- الالتفات في الصلاة، وفي صحيح البخاري أنه سئل عنه فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد وكان يفعله في الصلاة أحيانًا لعارض ولم يكن من فعله الراتب كالتفاته إلى الشعب الذي بعث إليه الطليعة، والله أعلم.
وكان يدعو بعد التشهد وقبل السلام، وبذلك أمر في حديث أبي هريرة وحديث فضالة وأما الدعاء بعد السلام مستقبل القبلة أو المأمومين، فلم يكن ذلك من هديه- صلى الله عليه وسلم- أصلا، وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، وهذا هو اللائق بحال المصلي؛ فإنه مقبل على ربه فإذا سلم زال ذلك.
ثم كان -صلى الله عليه وسلم- يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك، هذا كان فعله الراتب، وروي عنه أنه كان يسلم تسليمة واحدة من تلقاء وجهه، لكن لم يثبت، وأجود ما فيه حديث عائشة وهو في السنن لكنه في قيام الليل، وهو حديث معلول على أنه ليس صريحًا في الاقتصار على التسليمة الواحدة. وكان يدعو في صلاته فيقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، وكان يقول في صلاته أيضًا: اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي فيما رزقتني، وكان يقول:اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك قلبًا سليمًا وأسألك لسانًا صادقًا وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم. والمحفوظ في أدعيته كلها في الصلاة بلفظ الإفراد.
وكان إذا قام في الصلاة طأطأ رأسه- ذكره أحمد وكان في التشهد لا يجاوز بصره إشارته، وقد جعل الله قرة عينه ونعيمه في الصلاة فكان يقول: يا بلال أرحنا بالصلاة، ولم يشغله ذلك عن مراعاة المأمومين مع كمال حضور قلبه، وكان يدخل في الصلاة وهو يريد إطالتها، فيسمع بكاء الصبي فيخففها مخافة أن يشق على أمه.
وكذلك كان يصلي الفروض، وهو حامل أمامة بنت ابنته على عاتقه إذا قام حملها وإذا ركع وسجد وضعها، وكان يصلي فيجيء الحسن والحسين فيركبان على ظهره، فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره، وكان يصلي فتجيء عائشة فيمشي فيفتح لها الباب ثم يرجع إلى مصلاه، وكان يرد السلام بالإشارة.
وأما حديث من أشار في صلاته فليعدها، فحديث باطل. وكان ينفخ في صلاته- ذكره أحمد وكان يبكي فيها ويتنحنح لحاجة، وكان يصلي حافيًا تارة ومنتعلًا أخرى وأمر بالصلاة في النعل مخالفة لليهود.
وكان يصلي في الثوب الواحد تارة، وفي الثوبين تارة وهو أكثر ، وقنت في الفجر بعد الركوع شهرًا ثم ترك، وكان قنوته لعارض فلما زال تركه، فكان هديه -صلى الله عليه وسلم- القنوت في النوازل خاصة، وتركه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر بل كان أكثر قنوته فيه؛ لأجل ما يشرع فيه من الطول، ولقربها من السحر وساعة الإجابة والتنزل الإلهي.


السنة مفصلة لما أجمله القرآن من أحكام الصلاة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سمعنا عن صفة -صلاة النبي صلى الله عليه وسلم- وقد ثبت عنه أنه قال: صلوا كما رأيتموني أصلي وهذا معلوم من شريعته؛ لأنه المبين لما أمرنا به، فالله تعالى أمرنا بالصلاة، وأجملت الصلاة في القرآن كما في قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وذكر منها القيام وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ وذكر الركوع ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ولم يذكر عدد الصلوات وإنما جاء في السنة، ولم تذكر عدد الركعات وإنما جاء في السنة، فليس في القرآن أن الظهر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث، وأن الفجر اثنتان- أخذ ذلك من السنة، وليس في القرآن أن في كل ركعة سجدتان وإنما أخذ ذلك من السنة، ولم يذكر في القرآن أدعية الصلوات وإنما أخذ ذلك من السنة، فنعرف بذلك أن بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه الصلاة بيان لما أنزل الله عليه قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وقد بين -صلى الله عليه وسلم- ما أمرنا به أتم بيان، ومن ذلك بيانه للصلاة.
أخذ من السنة مواقيت الصلوات أن الظهر يدخل وقتها بعد الزوال، وأن العصر يدخل وقتها بين الظهر والمغرب، وأن المغرب يدخل وقتها بغروب الشمس، والعشاء بغروب الشفق، والصبح بطلوع الفجر، وكذلك نهاية المواقيت كل ذلك أخذت من الأحاديث النبوية، كذلك أيضًا أخذ منها عدد الركعات أخذت من السنة النبوية عدد ركعات الصلوات، وكذلك نوافل الصلوات وسننها ورواتبها كل ذلك بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- بيانًا شافيًا لأمته، ولا شك أن ذلك لأجل أن تقتدي به، فيفعلون مثل ما فعل ويتركون ما ترك.
حكم التلفظ بالنية
مر بنا بالأمس أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يتلفظ بالنية لم يكن عند دخوله في الصلاة يقول: نويت أن أصلي صلاة الظهر أربع ركعات مستقبل القبلة إمامًا أو مأمومًا أداءً أو قضاء ما كان يقول ذلك. إنما النية محلها القلب والتلفظ بها بدعة هذا هو المعروف. سئل أحمد -رحمه الله- أتقول قبل التحريمة شيئًا؟ فقال: لا؛ إذ لم ينقل عن محمد ولا عن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم.
تعرفون أن الشافعية يجهرون بالنية إذا أراد أحدهم أن يكبر أخذ يتلفظ: نويت أن أدخل في هذه الصلاة التي عددها كذا مستقبل القبلة إلى آخر ما يقولون. ذكروا أن هذا هو مذهب الشافعي ولكن ما ذكره الشافعي صريحًا في كتبه، ولا ذكره أحد من فعله. نقل عن الشافعي أنه سئل: بما تفتتح الصلاة؟ فقال: بفرضين وسنة، فسئل عن الفرضين فقال: النية والتحريمة، والسنة رفع اليدين. هذا هو الذي نقل عن الشافعي فأخذ الشافعية من قوله بالنية أنه يتلفظ بها، ولكن لا يلزم من كلامه أنه يتلفظ بالنية؛ لأن النية محلها القلب؛ ولأنها ملازمة للمسلم لا بد أنه ناو بكل حال، فلا حاجة إلى أن يحرك قلبه بالنية، ولا أن يحرك لسانه لا بالنية عند الطهارة ولا بالنية عن الصلاة ولا بالنية عند الصيام، بل القلب يحتوي على ذلك كله، ويكفي ذلك.
والدليل أنك لو رأيت أخاك متوجها وقت الصلاة إلى الحمام، فسألته: لماذا ذهبت؟ لقال: أتوضأ نطق بما في قلبه، فدل على أنه قد نوى، وإذا قلت: لماذا تتوضأ؟ سوف يقول: لأؤدي الصلاة، وإذا رأيته متوجها من بيته إلى المسجد بعد الأذان علمت بأنه قد نوى أداء الصلاة، فلو أوقفه أحد في الطريق لاعتذر، وقال: دعني أذهب أصلي هذه الصلاة. أليس هذا دليلا على أن قلبه قد انعقد على هذه النية؟ وأنه قد عزم على فعلها؟ فلا حاجة حينئذ أن يقول: نويت أن أصلي كذا وكذا.
حكم رفع اليدين في الصلاة
من صفة الصلاة: رفع اليدين كما ذكرنا عن الشافعي ورفع اليدين سنة، وقد ذكرنا أن الحنفية لا يرفعون اليدين إلا عند افتتاح الصلاة والثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عمر أنه يرفعهما عند افتتاح الصلاة وعند الركوع وعند السجود قال ابن عمر كان يرفع يديه عن افتتاح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع، ثم قال: ولا يفعل ذلك في السجود يرفعهما إذا افتتح الصلاة وإذا كبر راكعًا وإذا رفع وقال سمع الله لمن حمده رفعهما، وأما إذا سجد فلا يرفع وكذلك إذا رفع من السجدة، وكذلك إذا سجد السجدة الثانية ورفع منها لا يفعل ذلك، هذا هو المعروف. والحديث الذي روي أنه رفع يديه مرة في السجود يمكن أن ذلك مرة واحدة فعل ذلك لمناسبة، ويفهم منه أن رفع اليدين في الأحوال التي لا يكون فيها حركة كثيرة مثل حركة السجود فيرفع يديه في هذه الحالة.
صفة ركوعه -صلى الله عليه وسلم-
إذا أراد رفع يديه للركوع رفعهما ثم حطهما ودلاهما إذا أراد الركوع- الركوع ركن من أركان الصلاة أمر الله به في قوله تعالى وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وفي قوله ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا فهو ركن من أركان الصلاة، والحكمة فيه الخضوع؛ لأنه دليل على الذل ودليل على الخشوع؛ فإن الإنسان إذا حنى ظهره كان ذلك تواضعًا منه لربه، وكان ذلك دليلًا على تعظيمه لله تعالى، ولهذا أمر بأن يطمئن في الركوع يثبت فيه ثبوتًا تاما بحيث تثبت أعضاؤه وتثبت حركته ويطمئن في ذلك.
ولما علم المسيء الذي كان يسيء صلاته قال له: اركع حتى تطمئن راكعًا أي حتى تثبت في هذا الركوع، وتطمئن وتسكن أعضاؤك، ثم قال: ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا فأكد عليه الطمأنينة والرقود والاعتدال والثبات، ونهاه عن التخفيف الذي يدل على عدم الاطمئنان وعدم الرقود في الصلاة وعدم الخشوع فيها- العجلة السريعة التي تدل على عدم المحبة للصلاة وإطالتها.
وقد مر بنا أنه قال لمعاذ إن منكم منفرون أيكم أَمَّ الناس فليخفف قال ابن القيم أخذ ذلك النقارون- النقارون الذين ينقرون الصلاة، فتعلقوا بهذه الكلمة ولم ينظروا ما قبلها وما بعدها، ولا شك أن هذا خطأ في هذه العبادة، وأن المصلي عليه أن يطمئن في صلاته، ويخشع ويخضع فيها، ولا يخففها تخفيفًا يزيل روحها؛ فإن الخشوع روح الصلاة الذي به تحيا. أنت تعرف أن الإنسان فيه جسد وروح وإذا خرجت الروح مات الجسد، فالخشوع روح الصلاة ولبها، فعليه أن يخشع في صلاته ويطمئن فيها؛ ولذلك بدأ الله وصف المؤمنين بهذه الصفة قال: تعالى الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ الخشوع هو الإخبات، الخشوع هو الرقود، الخشوع هو الثبات في الصلاة وعدم عجلة المصلي فيها. تعرفون أن هناك من يخففها، وهم الأحناف نقلوا عن أبي حنيفة أن الطمأنينة ليست ركنًا، فترى أحدهم ساعة ما ينحني راكعًا يرفع. ساعة ما يرفع يسجد ولا يطمئن. هذا خطأ مبطل للصلاة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لذلك المسيء صلاته: ارجع فصل فإنك لم تصل يعني صلاتك لا تقبل، صلاة كلا صلاة هكذا أخبر.
ثم الركوع محل للتعظيم. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم أي حري أن يستجاب دعاؤكم في السجود، أمر بأن يعظم الرب في الركوع -شرع للأمة في الركوع أن يقولوا: سبحان ربي العظيم، وجعل المجزئ تسبيحة واحدة، وجعل أدنى الكمال ثلاث تسبيحات سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، وكان -صلى الله عليه وسلم- قد يسبح عشر تسبيحات. نقل أنس -رضي الله عنه- أن صلاته مثل صلاة عمر بن عبد العزيز لما كان أميرًا على المدينة في عهد عبد الملك يقول الراوي: فحزرنا تسبيحه في الركوع وفي السجود عشرًا عشرًا، أي يقول سبحان ربي العظيم عشرًا في الركوع، سبحان ربي الأعلى عشرًا في السجود، وذلك دليل على الركود فيها وعلى الطمأنينة فيها وعدم الإسراع.
وصفة ركوعه أنه يمد صلبه يسوي ظهره فيجعله مستويًا، فلا يجعله متقوسًا ولا يجعله منحصرًا، بل يجعله مستويًا ويجعل رأسه بحيال ظهره، فلا يدلي رأسه ولا يصوبه لا يصوبه كرأس الطائر، ولا يخفضه كرأس الدابة بل يجعله مساويًا لصلبه، هذا هو استواء الركوع يعني تسوية الركوع، وكذلك أيضًا يعتمد بيديه على ركبتيه، ويفرق أصابع يديه، ويلقم كل ركبة يدًا، تلتقم اليد الركبة، وكذلك يعتمد على يديه، ويوتر عضديه يعني أنه من شدة اعتماده كأن عضده الوتر من شدة اعتماده تتصلب أعصاب الذراع وأعصاب العضدين يعتمد بهما هذا هو صفة الركوع والطمأنينة فيه.
صفة الرفع من الركوع
بعده ركن الرفع يفصل به بين الركوع والسجود يعود إلى أن يستوي قائمًا كما هو معروف ويطمئن ويعتدل ويعود كل عضو إلى مكانه وكل فقار إلى موضعه، ويستوي قائمًا، ويطيل أيضًا هذا الركن الذي هو الرفع، كما يطيل الركن الذي هو بين السجدتين الجلسة. كان أنس -رضي الله عنه- يقول: إني أشبهكم بصلاة رسول -الله صلى الله عليه وسلم- فكان إذا رفع من الركوع وقف حتى يقول القائل قد أوهم قد نسي، وإذا رفع وجلس بين السجدتين أطال الجلوس حتى يقول القائل قد أوهم قد نسي يدل على أنه حفظ من النبي -صلى الله عليه وسلم- إطالة هذين الركنين. ولعل الذين استطالوهما نظروا إلى أن الأمراء في ذلك الزمان يخففونها يخففون هذين الركنين، فكان إطالتهما بالنسبة إلى من يخففهما تخفيفًا زائدًا.
الاعتدال في أركان الصلاة وتسويتها
نقل أيضًا أنس وغيره من الصحابة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسوي بين هذه الأركان يطول ركوعه ورفعه وسجوده وجلوسه بين السجدتين وسجدته الثانية قريبًا من السواء. إذا كانت مثلًا ركوعه بقدر دقيقتين، فوقوفه أيضًا بقدر دقيقتين، وسجوده بقدر دقيقتين، وجلسته أيضًا بقدر دقيقتين، وكذلك أيضًا إذا أطال الركوع وجعله خمس دقائق، فكذلك يطيل الرفع ويجعله خمس دقائق، وكذلك إذا جعل ركوعه دقيقة فرفعه أيضًا دقيقة أي يعدل بين هذه الأركان إن أزاد فيها سوى بينها إن كان الركوع ثلاث دقائق كان الرفع ثلاث دقائق وكان السجود ثلاث دقائق وكان الجلوس ثلاث دقائق، وكذلك إن كان دقيقة ونصف يسوي بينها هذا هو الاعتدال. الاعتدال في أركان الصلاة وتسويتها.
الذكر بعد الرفع من الركوع
ولا شك أيضًا أنه يشغلها لم يكن يسكت في شيء من الأركان، بل كل الأركان يشغلها إما بالذكر وإما بالدعاء، فحفظ عنه بعد الرفع من الركوع أنه يقول: سمع الله لمن حمده عند الرفع وهذا واجب من الواجبات التسميع، وبعد ذلك يأتي بالذكر فحفظ أنه قال: ربنا ولك الحمد بالواو في ولك الحمد وأنه قال: اللهم ربنا لك الحمد بدون الواو، وأنه قال: اللهم ربنا لك الحمد أو ربنا لك الحمد.
يقول ابن القيم إنه لم يجمع بين الواو واللهم. وذكر بعض العلماء أنه وجد رواية فيها الجمع اللهم ربنا ولك الحمد، فلا مانع من أن يقول اللهم ربنا ولك الحمد، أو يقول ربنا ولك الحمد، أو يقول ربنا لك الحمد، أو يقول اللهم ربنا لك الحمد لا مانع من ذلك كله؛ لأنه إجابة للدعاء الذي أمرنا به.
الإمام إذا رفع يقول سمع الله لمن حمده المأمومون لا حاجة إلى أن يقولوا سمع الله؛ لأن الإمام يذكرهم كأنه يقول احمدوا ربكم فإن ربكم يسمع الحامدين يعني يجيبهم ويقبل منهم ويثيبهم على حمدهم، فإذا ذكركم الإمام الحمد، فإنكم تقولونه قال النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ربنا ولك الحمد ولم يقل قولوا: سمع الله، فالمأمومون يبادرون ويقولون ربنا ولك الحمد.
حفظ أيضًا أنه يقول: ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أو ملء السماوات والأرض وما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وقد يزيد على ذلك وقد يقر من زاد، فإنه مرة سمع رجلًا رفع رأسه فقال: الله ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فقال: لقد رأيت بضعًا وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها فهذا دليل على أنه كان يقر أصحابه على الأذكار ولو زائدة على ما كان يذكره، وكذلك روي أنه أقر من قال: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. فالمقام مقام حمد ومقام ثناء، ولو أطاله وأكثر من الثناء على الله تعالى، فلا إنكار عليه لو جعله بقدر خمس دقائق أربع ثلاث دقائق كلها ثناء فلا ينكر عليه، ولكن يجعل الأركان كما ذكرنا معتدلة لا يزيد بعضها على بعض.
بعد ذلك السجود أي الخرور ساجدًا. خر ساجدًا يعني انحط من القيام إلى الأرض يسمى هذا خرورًا قال الله تعالى: إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا يعني يكونون قيامًا فيخرون إلى الأرض يخرون للأذقان. الذقن أسفل الوجه ولو لم يكن فيه شعر، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ الخرور: الانحطاط من القيام.
ثم المحفوظ أنه -صلى الله عليه وسلم- في سجوده كان يبدأ بأقرب الأعضاء إلى الأرض. أقرب أعضائه إلى الأرض الركبتين، فأول ما يضع على الأرض الركبتان كما سمعنا في كلام ابن القيم ؛ لأنها أقرب شيء إلى الأرض. يبدأ بوضع ركبتيه ثم بعد ذلك يضع يديه ثم بعد ذلك يضع وجهه. هذا هو الطمأنينة في الجلوس، وهذا هو الجلوس المعتاد، وهذا هو سجود الأقوياء لا سجود الكسالى، ولا سجود المتوانين والمتثاقلين والمتعاجزين؛ فإن الذي يقدم يديه قبل ركبتيه دليل على أنه كسلان، وعلى أنه متعاجز لا يفعل ذلك إلا إذا كان شيخًا كبيرًا، أو كان مريضًا. هذا هو المعتاد تقديم الركبتين ثم بعدهما يضع اليدين ثم بعد ذلك الوجه، وهذا هو الذي أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم-.