تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) شرع الله تطهير هذه الأعضاء وغسلها وتنظيفها عند القيام إلى الصلاة أو عند وجود حدث؛ حتى يصير المصلي نظيف البدن، وحتى يحصل له النشاط والقوة، وحتى يقبل على الصلاة بصدق ومحبة ورغبة
شرح كتاب النكاح من صحيح البخاري
46169 مشاهدة
باب: النظر إلى المرأة قبل التزويج

قال البخاري -رحمه الله- باب النظر إلى المرأة قبل التزويج.
قال أبو عبد الله حدثنا مسدد قال: حدثنا حماد بن زيد عن هشام عن أبيه عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأيتك في المنام يجيء بك الملك في سرقة من حرير فقال لي هذه امرأتك فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت هي فقلت إن يك هذا من عند الله يمضه .
قال أبو عبد الله حدثنا قتيبة قال: حدثنا يعقوب عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن امرأة جاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي. فنظر إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصعد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال: أيْ رسول الله! إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال: هل عندك من شيء قال: لا والله يا رسول الله! قال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا، فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئا قال: انظر ولو خاتما من حديد، فذهب ثم رجع، فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد ولكن هذا إزاري قال سهل ما له رداء فلها نصفه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء فجلس الرجل حتى طال مجلسه، ثم قام فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موليا فأمر به فدعي فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا عددها قال: أتقرؤهن عن ظهر قلبك قال نعم قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن .


عقد البخاري هذا الباب لحكم النظر إلى المخطوبة، وكأنه ما صح عنده شيء من الأحاديث التي وردت في ذلك إلا هذه الأحاديث التي ليست صريحة.
فالحديث الأول قد تقدم ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أريها في المنام، يعني عائشة عرضت عليه في المنام فقيل: هذه امرأتك، يقول: فأكشف فإذا هي أنت.
معلوم أن هذه رؤيا، ولكن رؤيا الأنبياء وحي فالله تعالى مثّلها له في المنام، أتاه ملك، وقال: هذه امرأتك، فنظر إليها؛ يعني إلى صورتها في المنام وعُرِّف بأنه سوف يتزوجها، وحصل ذلك، كأن البخاري يقول: إذا جاز أن ينظر إلى صورتها ولو في المنام دل على أن الذي يخطب ينظر إلى مخطوبته إن تيسر له ذلك.
كذلك في حديث سهل وقد تقدم أيضا ذكر أن هذه المرأة لما قالت: قد وهبت لك نفسي، وقفت ثم إنه نظر إليها، وكانت أيضا متحجبة، ولكن نظر إلى هيكلها وإلى جسمها وإلى طولها و قصرها ونحو ذلك، صعد النظر فيها، وصوبه؛ أي رفعه ثم خفضه ثم انصرف عنها، فدل ذلك على أنه يجوز أن ينظر الخاطب إلى مخطوبته.
وقد وردت أدلة في ذلك ففي حديث: أن رجلا خطب امرأة من الأنصار فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- اذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا يعني أنك إذا تزوجتها فقد لا تناسبك، إذا رأيت بعد ذلك أنها ضعيفة البصر أو ما أشبه ذلك، فإذا نظرت إليها قبل أن تتزوج وأعجبتك ورأيت أن بصرها ليس فيه بأس ناسبت لك بعد ذلك.
وكذلك أيضا في حديث جابر قال -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن يرى منها شيئا فليفعل يقول جابر فخطبت امرأة فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها.
وهذا دليل على أنه يجوز النظر إليها ولو لم تعلم، ولو كانت في خفاء أو مختفية أو نحو ذلك فكان يتخبأ لها، يستتر بحائط أو بشجرة أو بنخلة إلى أن رآها، فلما رآها أعجبته.
وكذلك أيضا في حديث آخر، قال -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب أحدكم المرأة فلينظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينهما يعني أن يؤلف بينهما، فهذه الأحاديث وما استنبطه البخاري أيضا دليل على أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته.
فالناس في هذا لهم مذاهب: أجاز الظاهرية أن ينظر إليها كلها ولو إلى عورتها، أخذوا من قوله: انظر إليها. وهذا فيه شيء من التوسع، قالوا: لو طلب النظر إليها لمكن. وذهب آخرون إلى أنه لا يلزم أولياءها أن يمكنوه من النظر إليها، وإنما ينظر إلى صورتها، أو ينظر إليها عن خفية، أو ينظر إلى هيكلها وهي متسترة؛ وذلك لأن كثيرا من الناس يغلب عليهم الحياء إذا خطب أحدهم ابنته، فمن الحياء لتلك المرأة أن تبرز له، وأن تريه جسمها، وكذلك أهلها قد لا يكون ذلك عادة عندهم، وأيضا يخشون أنهم يبدونها له، ثم تنصرف رغبته عنها؛ فيكون نظر إليها وهي لا تحل له ومع ذلك ما تأثر بهذا النظر بل لم يرغبها؛ فلا يمكنون مَنْ ينظر إليها.
لكن في هذه الحال له أن يتخبأ وينظر إليها إن تيسر أما إذا كانت لا تخرج، بل هي محتشمة دائما، فله أن يرسل من ينظر إليها من أهله، إذا أرسل أمه أو أخته ونظرت إليها، أو عرفتها، سأل امرأة موثوقة ممن ترآها فوصفتها له، وذكرت له صفتها وجمالها يكتفي برؤية من رآها ممن يثق به؛ فيكون له ذلك.
ثم إن هناك أيضا من يتوسع في هذا بحيث إنه إذا خطبها؛ مكنوه من أن ينظر إليها وأن يخلو بها, وأن يذهب بها أيضا في سيارته إلى الأسواق قبل العقد عليها، وهذا أيضا فيه شيء من التساهل؛ لأنه قد يقع منهما فاحشة قبل أن يعقد عليها، سيما إذا كان هناك خلوة، الذين رخصوا في النظر اشترطوا ألا يكون هناك خلوة،وأخصوا النظر بما يظهر غالبا؛ أن يكون عندها أبوها أو أخوها أو محرم من محارمها، وأن يكون النظر إلى وجهها وإلى كفيها أو ساعديها وإلى شعرها وإلى قدميها، وينظر إليها مقبلة ومدبرة، فإذا رغب فيها أقدم على نكاحها، وإن لم يرغب فيها انصرف عنها.
كذلك أيضا يذكر أن بعض النساء إذا طلب النظر إليها تصنعت وتجملت بشيء ليس من صفتها، فتحمر وجهها مثلا أو تصبغ شفتيها، أو كذلك في زينتها؛ تتزين بحلي وبلباس لافت للنظر مغير لهيكلها فينخدع بها، فإذا تزوجها بعد ذلك رأى أن صورتها قد تغيرت عما كانت عليه، فنقول: إن هذا لا يجوز، وإن هذا يعتبر تدليسا، فعليها أن يبرزها أهلها كما كانت دون أن تغير شيئا من مظهرها.
وبكل حال هكذا جاء في هذه الأحاديث جواز النظر إلى المخطوبة، وليس ذلك لكل أحد، وإنما هو لمن يكون راغبا، أما كثير من الناس يكون قصده التطلع؛ فيأتي إلى هؤلاء ويقول: أروني ابنتكم، ثم يأتي إلى آخرين وآخرين وآخرين، وربما يمر على عشرة وعشرين، وليس قصده النكاح وإنما قصده أن يشبع نظره من هؤلاء النساء، فإن ذلك لا يجوز.
فعلى الإنسان أن يتقيد بالأوامر الشرعية، ولا يتوسع فيما يخالف ذلك، وفيما فيه شيء من التساهل؛ فقد يكون نظره إليها يسبب علاقة بينهما وهو لا يريدها، فيقعان فيما هو فاحشة أو منكر. والله أعلم، ثم ننبه إلى أن هذا آخر الدروس يعني بالنسبة إلى صحيح البخاري هنا، حيث إن الليلة القابلة فيه محاضرة للشيخ محمد بن عثيمين في الجامع الكبير، فنتوقف عند هذا الدرس إلى وقت آخر، والله أعلم، وصلى الله على محمد .