اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك. عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه شرع الله تطهير هذه الأعضاء وغسلها وتنظيفها عند القيام إلى الصلاة أو عند وجود حدث؛ حتى يصير المصلي نظيف البدن، وحتى يحصل له النشاط والقوة، وحتى يقبل على الصلاة بصدق ومحبة ورغبة
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري
32120 مشاهدة
باب فضل من علِم وعلَّم


باب فضل من علم وعلم.
قال: حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا حماد بن أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا؛ فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .
قال أبو عبد الله قال إسحاق وكان منها طائفة قبلت الماء قاع يعلوه الماء والصفصف المستوي من الأرض.


مثل ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفقه والفهم وغيرهم، ذكر العلماء أن الأرض إذا نزل عليها المطر تنقسم إلى أربعة أقسام:-
قسم: يكون فيها الماء والمستنقعات وتحفظ الماء وتنبت الأعشاب، فالناس يأتون فيها فيجدون الأعشاب، ويرعون ويحْتشُّون، ويجدون الماء على ظاهرها فيرتوون ويزرعون ويشربون، والماء أيضا في جوفها فيرتوون؛ فهذه أفضل البقاع.
وقسم ثان: تنبت الكلأ والأعشاب، ولكن لا تمسك الماء يزل عنها الماء إلى غيرها يردها الناس يأتون فيجدون فيها النباتات والأعشاب فيرعون أغنامهم ويحتشون منها ففيها منفعة.
وقسم ثالث: تمسك الماء على ظاهرها أو في جوفها يردها الناس ويرتوون ولكنها لا تنبت إما أنها حجرية صخرية غير قابلة للإنبات أو نحو ذلك ولكن تمسك الماء فينتفعون بالماء يرتوون ويسقون دوابهم ويشربون ففيها أيضا منفعة.
القسم الرابع: الأرض السبخة تمتص الماء في ظاهرها، ولا تنبت نباتا ولا تمسكه في ظاهرها ولا في جوفها أرض قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ.
أربعة أقسام فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب المثل للناس بالنسبة إلى أخذ الكتاب والسنة، فهم أربعة أقسام أفضل الأقسام الذين يحفظون النصوص ويستنبطون منها الأحكام جمعوا بين الحفظ والفهم فهم أذكياء بحيث إن كل ما سمعوه فإنهم يحفظونه، وإذا حفظوه استفادوا منه، ومع ذلك يستنبطون منه كثيرا من الأحكام، قد يستنبطون من الآية عشر فوائد أو غيرها وكذا من الحديث يستنبطون منه مائة فائدة أو نحوها فيجمعون بين الحفظ للنصوص وبين الفهم وبين الاستدلال بها، يستدلون بها بهذه النصوص فيقولون في هذا الحديث دلالة على كذا وعلى كذا وعلى كذا فهؤلاء بمنزلة الأرض التي تنبت الكلأ وتمسك الماء، ففيها نفع مرتين فيهم نفع يحفظون للناس النصوص بما رزقهم الله، وفيهم نفع بالقدرة على الاستنباط وعلى الفهم ونحو ذلك هؤلاء خير الأقسام.
القسم الثاني: الذين رزقهم الله ذكاء وقوة إدراك وقدرة استنباط وحسن تعليل ولكن ليس لهم حظ من حفظ النصوص إلا القليل -أعني الحفظ عندهم قليل- ولكن رزقهم الله -تعالى- فهما وذكاء في إدراك المعاني، وفي استنباط الأحكام وفي ذكر التعاليل وما أشبهها، فهؤلاء نفع الله -تعالى- بهم.
والقسم الثالث: يحفظون أوعية للحفظ أعطاهم الله -تعالى- قوة الذاكرة فهم حفاظ، ولكن لم يشتغلوا بالاستنباط، وإنما يشتغلون بالحفظ يحفظون الأحاديث الكثيرة، وإذا سئلوا عن مسألة فقد لا يذكرون دليلا وقد لا يستنبطون من هذه الأدلة حكما، ولكن سخرهم الله -تعالى- لحفظ النصوص.
والقسم الرابع: الذين حرموا هذا وهذا لا حفظ ولا فهم فنقول -مثلا- الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- والإمام مالك ممن رزقهم الله الحفظ والفهم بحيث إن أحدهم يحفظ ما سمعه ومع ذلك يستنبط منه الأحكام ويستنبط منه الفوائد، فهم ممن جمع الله له بين الأمرين، الإمام أحمد أحفظ؛ لأنه ذكر أنه كان يحفظ ويفتي يقول فيه الصرصري
حوى ألف ألف من أحاديث أسندت
وأثبتها حفظا بقلب محصـل
هذا في الحفظ ألف ألف مليون حديث مسندة وأثبتها حفظا بقلب محصل، ثم يقول في الاستنباط:
أجــاب على ستين ألف قضية
بـأخبرنا لا عن صحائف نقل
يعني سئل ستين ألف مسألة، ماذا يكون قدرها؟
إذا سئل بعض المتأخرين عن ألف مسألة وأجاب عنها استكثرها، فكيف بستين ألف قضية أجاب عنها بأخبرنا، لم يرجع إلى الصحف، ولم يرجع إلى كتاب، بل عندما يسأل يقول: الجواب ما حدثناه فلان عن فلان سواء كان حديثا مرفوعا أو حديثا موقوفا أو أثرا من الآثار، فيجيب على هذا كله. فهذا دليل على أن الله -تعالى- جمع له بين الحفظ والفهم.
الإمام مالك -رحمه الله- إذا قرأت كتابه الذي هو الموطأ تستدل به على كثرة استنباطه كيف أنه أجاب على تلك المسائل الكثيرة التي في موطئه، وكذلك أيضا إذا قرأت كتاب المدونة خمسة أجزاء كبار تجد أن هذه كلها مسائل سئل عنها أغلبها إن كان بعضها من تلاميذه مما يدل على أن الله -تعالى- وهبه حفظا ووهبه فهما.
الإمام الشافعي -رحمه الله- والإمام أبو حنيفة ممن رزقهم الله الفهم، أما الأحاديث فإنها قليلة للإمام أبي حنيفة يوجد له مسند يقولون: إنه مسند أبي حنيفة ولكن أكثره من الرواة عنه، ولكن رزقه الله الفهم بحيث إنه يجيب على المسألة فورا، ويذكر فيها الأدلة التي يستحضرها يعني الاستنباطات والتعليلات وما أشبه ذلك ولا يتلعثم في الجواب. ذكر مرة لهم حكم مسألة هل هي نفي أو إثبات؟ فقال: يمكن أن نثبتها ويستدل على إثباتها بكذا وكذا وكذا من التعليلات، حتى قال السامعون: هذا هو القول الصحيح.
ثم قال: وإذا قلنا بالنفي فإننا نعلل بكذا وكذا وكذا حتى قالوا: هذا هو القول الصحيح، ثم قال: ويمكن أن يقال فيها قول ثالث وهو كذا وكذا وعلله حتى قالوا: يمكن أن هذا هو القول الصحيح! مما يدل على أنه قد أعطي قوة في الإدراك والفهم.
الشافعي -رحمه الله- روى موطأ الإمام مالك وروى أحاديث غيره ضمنها كتابه الأم، ولكن أكثر كتابه تعليلات واستنباطات وفهم وغيره، ولم يكن يحفظ الأحاديث كثيرا ولكن كان يقول للإمام أحمد إذا صح عندك الحديث فأخبرنا حتى نعمل به مع أنه مات والإمام أحمد لا يزال شابا أو كهلا عاش الإمام أحمد بعده نحو سبعا وثلاثين سنة.
فالحاصل أن هؤلاء منهم من جمع الله له بين الحفظ والفهم، ومنهم من خصه بالفهم، أما الذين اختصوا بالحفظ فكثير؛ مثلا يحيى بن معين رزقه الله الحفظ، ولم يكن ممن يشتغل بالاستنباط، وكذا علي بن المديني و يحيى بن سعيد القطان ونحوهم كانوا ممن اشتغلوا بالحفظ، ولم يكونوا يشتغلون بالاستدلال ولا بالاستنباط إنما جعلهم الله تعالى أوعية لحفظ السنة، ولكن مع ذلك فإنهم قد يجيبون بما يحفظونه من السنة.
أما غيرهم الذين لم يشتغلوا بالأحاديث ولا بالسنة فهؤلاء هم المعرضون فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر هذا المثال: مثل ما بعثني الله -تعالى- به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير هؤلاء هم الذين جمعوا بين الحفظ والاستنباط، وكان منها أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وارتووا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .
فالذين أعرضوا عنه إما اشتغلوا بدنياهم، وإما اشتغلوا بعلوم أخرى كالذين اشتغلوا بفلسفة أو الذين اشتغلوا بعلم الكلام، أو الذين اشتغلوا بالعلوم الجديدة المستنبطة أو المأخوذة عن اليونان ونحوهم، وترجموا كثيرا من كتب اليونان ونحوهم، فهؤلاء ينطبق عليهم أنهم أعرضوا عن الكتاب، وأعرضوا عن السنة لم يرفعوا بها رأسا ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
هذه الأقسام الأربعة تجدونها في كل زمان، تجدون من يشتغلون بالحفظ يرزقهم الله تعالى فيحفظون مئات الأحاديث أو ألوف ولكن يشغلهم الحفظ عن الاستنباط، وآخرون رزقهم الله الاستنباط، وآخرون جمعوا بين ذلك، وأكثر الناس الذين لم يشتغلوا بذلك.
وذكر عن ابن مسعود أنه قال: الناس أربعة عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، ومستمع ومحب، وسائر الناس همج رعاع، يغلون الآثار ويضيقون الديار. وفي بعض الروايات أنه قال: كن عالما أو متعلما أو مجالسا أو محبا ولا تكن الخامسة فتهلك، فانقسام الناس هذه الأقسام يدل عليه واقعهم.