عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) إذا كان عقل المريض معه وفهمه وإدراكه فإن الأوامر والأحكام الشرعية تنطبق عليه، ويكلف بالصلاة والصوم والطهارة ونحوها بحسب القدرة، ويجوز مساعدته على الطهارة إن قدر على غسل أعضائه، فإن عجز عن استعمال الماء في أعضائه وشق غسلها عليه عدل إلى التيمم، فإن عجز فإن المرافق يقوم بذلك بأن يضرب التراب فيمسح وجهه وكفيه مع النية. تعبير الرؤيا يرجع فيه إلى معرفة أشياء تختص بالرائي وما يتصل به، وكذا معرفة القرائن والأحوال، ومعرفة معاني الكلمات وما يتصل بها لغة وشرعا وما يعبر به عنها، وهذه الأمور ونحوها يختص بها بعض الناس لانشغالهم بمعرفتها وما يدور حولها، فعلى هذا لا يجوز لكل أحد أن يعبر الرؤى، فقد يفهم فهما بعيدا، وقد يأخذ التعبير من اللفظ لا من المعنى فيخطئ في ذلك. لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية.
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري
31713 مشاهدة
باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا



قال المصنف رحمه الله تعالى: باب ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا.
قال: حدثنا محمد بن يوسف قال: أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا .


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتخولهم بالموعظة كراهة السآمة عليهم. الصحابة -رضي الله عنهم- قلوبهم رقيقة يتأثرون بالموعظة، ويكون لها وقع في نفوسهم، فإذا كانوا عنده بالمجلس وذكرهم وعرفهم رقت منهم القلوب، ودمعت منهم الأعين، وخشعت منهم الأبصار، واقشعرت منهم الجلود، وخشعوا واستكانوا، وأثرت الموعظة فيهم؛ فيكون من آثارها أنهم قد ينقطعون بالعبادة، وقد يتخلون من شهوات الدنيا، ومن ملذاتها من آثار تلك الموعظة.
فكان- صلى الله عليه وسلم- لا يواصل الموعظة والتذكير ونحوه مخافة السآمة عليهم، ومخافة أن يتأثروا تأثيرا بغيضا؛ فلذلك كان يعظهم كل أسبوع مرة أو مرتين هكذا. والمراد بالموعظة هاهنا التذكير والتخويف؛ بحيث يذكرهم بالآخرة، ويذكرهم بمعادها، وما فيها من الوعيد ومن الثواب والعقاب، ومن الأقوال ومن النكال، ومن عاقبة الدنيا ومآلها وتقلبها بأهلها، ومن أحوال المكذبين ممن سبق، وما نزل بهم من المثلات، وما حل به من العقوبات، من آثار المعاصي والسيئات.
فلذلك إذا ذكرهم فإنهم يخشعون، ويخضعون، ويسكنون، ويتأثرون بالموعظة تأثرا بغيضا؛ فكان يخشى عليهم من الانقطاع الكلي، وترك ما كان مباحا لهم، وقد وقع منهم قصص؛ فمن ذلك قصة حنظلة ؛ أنه جاء إلى أبي بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة ؟ قال: نافق حنظلة قال: ماذا تقول؟ فقال: إنا نكون عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيذكرنا الآخرة كأنا رأي العين، فإذا رجعنا إلى أهلينا عافسنا النساء والأولاد؛ فنسينا كثيرا مما كنا نعلمه، فقال أبو بكر والله إنا لكذلك.
فعند ذلك جاء حنظلة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال له هذه المقالة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لو تدومون على ما كنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم؛ ولكن يا حنظلة ساعة وساعة يعني لا تدومون على الحالة التي كنتم عندي فيها؛ من حالة الخشوع والخضوع ولكن ساعة وساعة؛ يعني زاولوا شهواتكم، وزاولوا أمور مكاسبكم وصناعتكم وحظوظكم وأشغالكم وزاولوا دنياكم، وكذلك اجلسوا مع أولادكم ومع نسائكم، وتناولوا ما أحل الله لكم، وإذا كنتم عندنا فإنكم تخشعون وتخضعون وتتواضعون ولا يؤثر ذلك في خشوعكم، ولا يكون ذلك علامة على أنكم منافقون؛ وهم منزهون عن ذلك، وكذلك تأثر بموعظة النبي-صلى الله عليه وسلم –كثير.
فمنهم عثمان بن مظعون كان من المهاجرين، هاجر معه أهله فتأثر بالمواعظ؛ فاعتزل امرأته، ويقال لها: الحولاء فبقي مدة لا يجلس معها ولا ينال منها شيئا، بقي أشهرا متتابعة؛ فلما رأت أنه اعتزلها لم تعتن بنفسها، وصارت تخرج أو تجلس وهي شعثة، مغبرة اللون، خلقة الثياب، فاستنكر ذلك منها بعض النساء؛ سألنها فقالت: إن زوجي ليس له رغبة في النساء؛ إنما هو مكب على العبادة، مكب على الدعاء والصلاة في الليل يقوم كله، وفي النهار يصوم.
سمع بذلك النبي-صلى الله عليه وسلم - فعاتبه على ذلك؛ ما هذا التبتل؟ فأخبره بأن ذلك رغبة في الآخرة، ومحبة للنجاة في الآخرة، عند ذلك عاتبه وقال: لا يجوز لك هذا؛ بل تناول ما أباح الله لك، فبعد ذلك سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وتناول ما أحل الله له. يقول ابن مسعود رد رسول- صلى الله عليه وسلم -على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا؛ أي تركنا الشهوات ومنها الدنيا، ولو لم نجد إلا أن نختصي حتى لا يكون لنا ميل إلى النساء، ووقائع لهم كثيرة.
ففي هذه الأزمنة القلوب قاسية؛ وذلك لكثرة المغريات، ولكثرة الشهوات، فلو أنه ذكروا كل يوم مرة مرتين ثلاث مرات، ما خشعوا ولا خضعوا ولا بلغوا رتبة الصحابة-رضي الله عنهم- لما في الصحابة من رقة القلوب ومن الخوف والخشية الشديدة؛ فنقول: لا مانع من أن يوعظ الناس كل يوم أو كل يوم مرارا؛ سواء في المجالس أو بعد الصلوات في المساجد أو في الخطب أو ما أشبه ذلك، فإن القلوب تحتاج إلى ما يلينها؛ بخلاف ما كان عليه الصحابة، وما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وكان أيضا أصحاب ابن مسعود مثل الصحابة في رقة القلوب؛ فكان يعظهم كل يوم خميس، فقالوا له: لو وعظتنا كل يوم: فأخبرهم بحالة النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه كان يتخولهم بالموعظة كل أسبوع مخافة السآمة عليهم أي مخافة المشقة التي تؤدي بهم إلى ترك الشهوات وما أشبهها.
قال أبو عبد الله حدثنا محمد بن بشار قال:حدثنا يحيى بن سعيد قال:حدثنا شعبة قال:حدثني أبو التياح عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا .


هكذا جاء في هذا الحديث: يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وأوصى بذلك بعض الصحابة لما أرسل أبا موسى و عمارا إلى اليمن كدعاة قال لهم: يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتتطاوعا ولا تختلفا.
التيسير معناه: ذكر سماحة الدين، وذكر يسر الإسلام، وذكر ما في الدين من السهولة والمرونة، وأنه ليس فيه صعوبات ولا تكليفات ولا غيرها؛ ولذلك وصف الله- تعالى –نبيه-صلى الله عليه وسلم- بقوله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ وفي قراءة: ويضع عنهم آثارهم والأغلال التي كانت عليهم؛ وذلك لأن في دين بني إسرائيل آثارا وأثقالا وأغلالا ومشقات فجاء الإسلام بوضعها، وأزيلت بسهولات وغيرها.
كان أحدهم إذا أصابت ثيابه نجاسة لا يغسلها بالماء وإنما يقرضها بالمقراض، ويرقع بدلها، لا يطهرها الماء، فجاء الإسلام بالطهارة وذلك من رفع الآثار والأغلال.
وكذلك أيضا، إذا عمل أحدهم سيئة كتبت على بابه حتى يتوب؛ يكتبها ولاة الأمور، وغيرهم، وكذلك عندهم شدة في المحرمات، فحرم الله عليهم كثيرا من الطيبات قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ حرم الله عليهم أكل لحوم الإبل، وأكل لحم بعض من الدواب كالنعام، وأكل شحوم السرب والبطن التي من الغنم والبقر، ذكر الله ذلك في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا إلى آخره، فجاء الإسلام بإباحة ذلك.
ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب أن ييسر على أصحابه ولا يكلفهم ما يشق عليهم؛ فكان يحثهم على الرفق بأنفسهم وعدم المشقة والتكلفة عليها، ومن ذلك القصص، قصة عبد الله بن عمرو بن العاص كان في أول عمره زاهدا ورعا؛ فكان لما تزوج-زوجه أبوه- عزف عن زوجته؛ وذلك لانشغاله بالعبادة يسألها أبوه ما حالته؟ فتقول: نعم الرجل من رجل! لم يطأ لنا فراشا، ولم يفتش لنا كنفا.
فلما طال ذلك عليه اشتكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: كيف تصوم؟ قال: كل يوم، وقال كيف تختم القرآن؟ كل ليلة يعني أنه كل ليلة يقرأ القرآن كله في تهجده ويصوم دائم؛ فمتى يتفرغ لأهله؟! ومتى يتفرغ لشهواته؟! فعند ذلك قصره النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يصوم يوما ويفطر يوما، وأن يقرأ كل ليلة سبع القرآن وقال له: إن لنفسك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لربك عليك حقا؛ فأعط كل ذي حق حقه .
وكذلك قصة الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أنا أقوم ولا أرقد، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني وكذلك دخل مرة في إحدى بيوته، وإذا حبل معلق في السقف، ما هذا؟ قالوا: حبل ربطته زينب تصلي؛ فإذا فترت تتعلق به فقال: حلوه ليصلي أحدكم نشاطه، فإذا فتر اعترض ليرقد ، وقال-صلى الله عليه وسلم- إذا نعس أحدكم في صلاته-يعني في تهجده- فليرقد، فإنه لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه وغير ذلك من الوقائع.
فالإسلام جاء باليسر، وبالسهولة وبالإبعاد عن العسر والمشقة، ولذلك أمثلة منها، إباحة التيمم في السفر لفقد الماء؛ وذلك لأنه يشق عليهم أن يحملوا الماء معهم مدة طويلة، فقال الله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فنفى عنهم الحرج لما فيه عليهم من مشقة بحمل الماء وأباح لهم التيمم.
ومن ذلك الفطر في السفر في قوله تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ علم بأن عليهم مشقة في السفر، وصعوبة كانوا يلاقونها، وكذلك في المرض؛ فأباح لهم الفطر والقضاء من أيام أخر، وغير ذلك من سهولة الإسلام.
فهذا معنى اليسر، يعنى في دعوتكم إلى الإسلام، لا تذكروا أن في الإسلام صعوبات ومشقات ونحو ذلك؛ بل إن هذا الدين يسر.
ثم إن الناس انقسموا في هذا إلى ثلاثة أقسام:
فقسم توسعوا: في بعض السهولات وصاروا يأخذون كل كلمة، الدين يسر فيتوسعون في ذلك توسعا زائدا؛ فيفطرون مع عدم المشقة عليهم، ويقصرون الصلاة مع كونهم مقيمين، ويتركون صلاة الجماعة مع أنهم يسمعون المؤذنين، وكذلك أيضا قد يتيممون والماء قريب منهم، أو يحملون معهم ماء ويتركونه ويلجئون إلى التيمم، وكذلك أيضا يؤخرون الصلوات لمجرد شغل -أدنى شغل-وإذا نصحتهم يقولون: الدين يسر، الدين فيه اليسر، لا تشددوا علينا.
فنقول: إن هذا ليس من دواعي اليسر إن هذا تفريط وإهمال؛ فلا تتوسعوا في كلمة اليسر، فإن اليسر إنما يكون عند المشقة؛ فإن الله -تعالى- أباح عند المشقات ما تزول به تلك المشقة، فأباح –مثلا- أكل الميتة عند المجاعة وما أشبهها مما يدل على أنه لأجل سهولة الإسلام ونحوه.
وكذلك أباح التيمم وما أشبهه؛ فلا يجوز التوسع، الله -تعالى- كلف العباد وأمرهم بالصيام إذا كانوا مقيمين، ولو كان عليهم في بعض البلاد صعوبة من طول النهار ونحوه، وفرض عليهم الصلاة ولو كانت المساجد بعيدة إذا كانوا مقيمين، وكذلك أيضا فرض عليهم الطهارة إذا كانوا مقيمين ولو كان يحصل عليهم صعوبة في نقل الماء، أو كان الماء باردا أو حارا فلا يجوز التوسع في ذلك.
أما الذين تشددوا: فإنهم لم يبيحوا رخص السفر مع وجود أسبابها، فيكلفون أنفسهم فوق طاقتها من الأعمال التي فيها مشقة عليهم؛ مع أن الله تعالى أباح لهم ذلك، فيصوم أحدهم ولو كان مريضا؛ يشق عليه المرض، ويصوم أيضا في السفر ولو كان عليه مشقة وصعوبة، وقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا في السفر صائما، وقد سقط تحت ظل شجرة والناس حوله يرشونه، ويرشون الأرض حوله ويظللونه، فسأل فقالوا: صائم، فقال: عليكم برخصة الله التي رخص لكم-يعني افعلوا رخصه- وقال: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته فلا يجوز التشدد ولا يجوز التساهل؛ بل الأمر وسط بين ذلك.
هذا معنى يسروا، يعني تيسيرا ليس فيه تفريط، ولا تعسروا أي لا تشددوا على الناس، وقد عاب الله -تعالى- الذين يتشددون في قوله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تشددوا فيشدد عليكم؛ فإن قوما شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ذلك لأن من تشدد النصارى ونحوهم انقطاعهم عن الدنيا، وانقطاعهم عن الكسب، وتفرغهم واعتكافهم في صوامع يتعبدون فيها، وفي ديارات وفي كنائس، وهذه الرهبنة لا يأتي بها الإسلام.
يقول: يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، التبشير يكون بالخير معنى ذلك أن عليكم أن تبشروا أهل الإيمان، وأن ترغبوهم في التوبة ونحو ذلك، فإذا رأيت –مثلا- بعض العصاة؛ فإياك أن تنفره عن التوبة، بل عليك أن ترغبه في التوبة، وتحببها إليه، وتقول له: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وإن عليك أن تتوب إلى الله توبة صادقة.
كذلك أيضا إذا رأيت من فعل معصية فلا تشدد عليه في الإنكار؛ فإن ذلك ينفره في قولك مثلا: أنت قد كفرت، وقد خرجت من الدين وقد خرجت على الإسلام، ولا خير فيك، ولا حاجة لله فيك، والله غني عنك، فبؤ بالخسار، فأنت من الخاسرين، وأنت من الضالين المضلين، وأنت فاجر وكافر، فإن هذا مما ينفره من قبول النصيحة، ويكون حاملا له على التمادي فيما هو فيه، ولا يقبل منك -بخلاف ما إذا نصحته ورغبته في الخير- ونحوه.
ومن التنفير أيضا ما جاء في الحديث: إن منكم منفرين وفي حديث أن رجلا قال يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة مع فلان أو عن الصلاة مما يطيل بنا فلان، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: أيها الناس إن منكم منفرين يعني إذا كنتم تصلون بالناس فلا تنفروهم وتشددوا عليهم، وتطيلوا عليهم، وقال لمعاذ يا معاذ أتريد أن تكون منفرا؟! وذلك لأنه لما صلى بقومه صلاة العشاء، وكان جاءهم متأخرا -يعني بعدما مضى من الليل ثلاث ساعات أو أربع- وهم أهل عمل، وأهل حرب، فافتتح سورة البقرة؛ ليقرأ بها في الصلاة كلها، فتأخر رجل كان مرهقا وصلى وحده واشتكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا معاذ أتريد أن تكون منفرا؟! هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والسماء ذات البروج، والسماء والطارق، -يعني بوسط المفصل- في مثل حالتهم يرفق بهم، فهذا من التنفير، فالحاصل أن صور التنفير كثيرة، وصور التبشير ظاهرة.