إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير
التعليقات الزكية على العقيدة الواسطية الجزء الثاني
48733 مشاهدة
5- إثبات صفة الرجل والقدم

[وقوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رِجله [وفي رواية: عليها قدمه] فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط متفق عليه .]


(الشرح)قوله: (وقوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟... ) :
هذا الحديث ذكره المؤلف لاشتماله على صفة القدم، وقد ورد في القرآن ذكر الساق في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم: 42] وورد ذلك أيضا في حديث الجمع يوم القيامة والله يجيء عباده كما يشاء ويقول: أنا ربكم، فيقولون: لست ربنا فيكشف عن ساقه أو عن ساق، فإذا رآه المؤمنون خروا سجدا .

(والقدم)- في رواية- (والرجل) صفة ذات، نؤمن بها كما يشاء الله ونثبتها، وقد أنكرها المبتدعة وأهل الكلام، واستعظموا إثباتها على أهل السنة. وقالوا: إن في إثباتها إثبات حدوث، وإثبات تجسيم، وإثبات تحديد، وتركيب، وتشبيه، وما أشبه ذلك من مقالاتهم المبتدعة.
ويجاب عن ذلك كله : بأنا مُتبعون لا مبتدعون، وبأنا نقف حيث وقفت الأدلة، ولا نتكلف التأويل، أما المبتدعة من معتزلة وأشعرية ونحوهم فسلكوا في ذلك مسالك عجيبة، في تأويل هذا الحديث.
فقال بعضهم : يضع فيها قدمه، يعني ما قدمه لها من الخلق، معناه : حتى يضع فيها من حكم في القِدَم بأنه من أهلها، ونفوا أن يكون القدم صفة من صفات الله وقالوا: إضافته إلى الله إضافة خلق، يضع فيها قدمه يعني خلقه القديمين، أو خلقه الذين قدم وقرر وقدر أنهم من أهلها.
وهذا تأويل بعيد، وتحريف للكلم عن ظاهره، ثم جاءتهم رواية رجله ، فسلكوا فيها أيضا ذلك المسلك العجيب وقالوا: الرجل: الجماعة من الناس، واستدلوا بقول العرب: جاءتنا رجل من جراد، يعني جماعة. فيقولون : الرجل الخلق، رجله: يعني خلقه، أو الجماعة التي خلقهم من الناس، وجعلوا الإضافة أيضًا إضافة خلق.
وقال بعضهم : إن المراد برجله هنا: كوكب يقال له: رجل، وبعضهم قال: إنه ملك من حملة العرش.

وكل هذه تأويلات وتمحلات، ونحن نقول: إن الله أثبت على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام صفة الرجل وصفة القدم كما يشاء، وأثبت في هذا الحديث أنه يضعه في جهنم لتنزوي وفي هذا أيضا دليل على سعة النار، وأنها بعيدة القعر، واسعة.
فإننا نشاهد كثرة الخلق الموجودين الآن، وكذلك من كانوا موجودين من قبل، والذين يتحقق أنهم من أهل النار؛ لكونهم بلغهم الإسلام فامتنعوا من اعتناقه، وأصروا على الكفر والطغيان، وماتوا أو يموتون على ذلك، فيتحقق أنهم من أهل النار، وهم مئات الألوف وألوف الألوف، وورد أيضًا أن أهل النار يعظمون في النار، فإن أحدهم يعظم خلقه حتى تأخذ النار منه نصيبها، حتى قالوا: إن ضرسه مثل الجبل، وإن بدنه مثل كذا وكذا، ومع ذلك فإن جهنم لا تمتلئ بل تقول دائما: هل من مزيد؟، فدل على سعتها وعظمها.
فالله تعالى ذكر أنه يلقي فيها المستحقين للعذاب كما قال تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30 ] وأخبر أنه يملؤها كما في حديث احتجاج الجنة والنار وهو حديث صحيح قال فيه: احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. وقالت النار: فيَّ الجبارون والمتكبرون، فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء. وقال للنار: أنتِ عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل منكما عليَّ ملؤها .
يقول في تمام الحديث: فأما الجنة فلا يزال فيها فضل- يعني أماكن فارغة- فينشئ الله لها خلقا فيسكنهم إياها بلا عمل، وأما النار فيبقى فيها فضل- فتأبى حكمته أن يُدخل فيها قومًا بلا ذنب- فيضع فيها رجله أو قدمه فينزوي بعضها إلى بعض .
فقد أفاد هذا الحديث أن الله تعالى عندما يضع فيها قدمه، أو يضع عليها رجله، أنه ينزوي بعضها إلى بعض، فما كان فيها من فضل، ينزوي ولا يبقى فيها متسع، وأنها يظهر لها قطقطة، والقطقطة هي آثار الامتلاء. ففي بعض ألفاظ الحديث: قَطْ قَطْ. بالإسكان، ورواها بعضهم بالتحريك قَطِ قَطِ. ونَوَّنَ بعضُهم قَطٌ قَطٌ، وضَم بعضهم: قَطُ قَطُ. والمعنى تصويتها عندما تمتلئ، فعادة الشيء إذا امتلأ يظهر له قطقطة، وأصوات قوية تسمع من آثار الامتلاء.
الحاصل أنه ذكر أن الله يضع فيها رجله أو قدمه كما يشاء فدل على إثبات هذه الصفة وأنها صفة ثابتة كما يشاء الله.