الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم. تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية.
السلف الصالح بين العلم والإيمان
8822 مشاهدة
بدعة القدرية

ثم حدث أيضا في أواخر عهد الصحابة بدعة أخرى هي بدعة إنكار القدر، إنكار القدر السابق كما قال يحيى بن يعمر كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألناه عما يقول هؤلاء فَوُفِّقَ لنا عبد الله بن عمر داخلا المسجد الحرام فاكتنفته أنا وصاحبي، وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد خرج قِبَلَنَا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم وإنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أُنُف. فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي نفسي بيده لو أنفق أحدهم مثل أُحد ذهبا ما قبله الله منه؛ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره.
هذه الطائفة أنكروا العلم السابق، وقالوا: إن الله لا يعلم الأشياء حتى تقع. وأنكروا أن يكون الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، وأنكروا أن يكون الله قدَّر على العباد ما هم فاعلون، وعلم الشقي والسعيد وما أشبه ذلك. وقد أنكروا النصوص الصريحة في ذلك؛ ولكن رد عليهم السلف، وبينوا خطأهم، وبينوا أن هذا قول باطل، وأن هذا تنقص لعلم الله تعالى.
ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خُصِمُوا، وإن جحدوه كفروا؛ يعني: سلوهم: هل تقرون بأن الله بكل شيء عليم؟ وبأن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؟ فإذا اعترفوا بأن الله بكل شيء عليم انقطعت حجتهم ولم يبق لهم ما يتعلقون به، وإذا أنكروه وقالوا: لا، لا نقر بأن الله بكل شيء عليم، كفروا؛ وذلك لأنهم تنقصوا الله تعالى، ووصفوه بالجهل، فإن لازم من نفى العلم عن الله أن يثبت له الجهل.
فهذه بدعة خرجت؛ ولكن هناك من يقاومها، وهناك من يردها، فلم تكن متمكنة في ذلك العهد؛ وذلك لقوة أهل الحق ولكثرتهم؛ ولقوة الأدلة التي جادلوا بها، فانقطعت الشبه وظهر أمر الله وهم كارهون.