الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه.    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية.
التعليقات الزكية على العقيدة الواسطية الجزء الثاني
47517 مشاهدة
خاتمة هذه العقيدة

[ وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره، فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلي الله عليه وسلم.
لكن لما أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار؛ إلا واحدة، وهي الجماعة وفي حديث عنه أنه قال: هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ؛ صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة.
وفيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، ومنهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين، الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة .

نسأل الله أن يجعلنا منهم وألا يزيغ قلوبنا بعد إذا هدانا ، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب . والله وأعلم .
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ] .


(الشرح)* قوله: (وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره، فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة...):
هذا الفصل في الكلام على خاتمة هذه العقيدة، وفيه يبين الشيخ رحمه الله أن تلك العقائد والآداب التي ذكرها والتي تشكل مذهب أهل السنة والجماعة، مبنية على الأدلة الشرعية، فلم يستحسن أهل السنة هذه العقائد والآداب من قِبل أنفسهم وإنما اتباعًا للأدلة الصحيحة الصريحة؛ وذلك لأن العقول تستحسن هذه العقائد والآداب.
وقد ذكر المؤلف- رحمه الله- الأدلة على ما قرَّره من عقيدة أهل السنة والجماعة، وبالأخص فيما يتعلق بالصفات، فإنه ذكر أدلة كثيرة من الآيات والأحاديث، وذكر أيضا أدلة فيما يتعلق بالقرآن، وفيما يتعلق بالرؤية، وفيما يتعلق بالإيمان والصحابة والقدر، وفيما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر وما بعده، ذكر أدلة ذلك كله، ولكن على وجه الاختصار؛ لأن الأدلة واسعة في هذا الباب ويصعب حصرها في هذه العقيدة المختصرة.
فكأن المؤلف اختصرها في عقيدة تحتاج إلى بسط وشرح وتوسع في الأدلة، وإلا فقد كتب هناك عقائد مدعمة بالأدلة، وأُلفت في هذا الباب مؤلفات كثيرة، قد أشار إلى بعضها الشيخ رحمه الله في مؤلفه الذي سماه الحموية الكبرى، فإنه أشار إلى جملة كبيرة من كتب المتقدمين التي ألفوها في العقيدة وفي الأسماء والصفات ونحوها ونقل منها نقولات كثيرة، فدل على أن أهل السنة لم يهملوا هذا الباب، بل اعتنوا به، ويدل أيضا على أن السلف الصالح متمسكون بالأدلة غاية التمسك.
فالحاصل أنه يقول: إن كل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره، فإنما هم متبعون فيه للكتاب والسنة. والكتاب والسنة هما الدليل الكافي، فمن اتبعهما لم يلحقه عتاب ولا لوم، وقد أمر الله برد التنازع إليهما: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [ النساء: 59] يعني إلى الكتاب والسنة، وكذلك قوله : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [ النساء: 65 ].
وكذلك الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله في عدة آيات، ثم ذكر المؤلف بعد ذلك أن طريقة أهل السنة القائمين بهذه العقيدة والمتبعين لها، هي طريقة أهل الحق، الطريقة السوية، وهي اتباع سبل الهدى ؛ واتباع النبي صلى الله عليه وسلم واتباع صحابته، واتباع من سار على نهجه، هذه هي الطريقة التي يجب أن تُتَّبَع.
وقد وضحت هذه الطريقة، فأدلتها ناصعة من الكتاب والسنة، ولكن خفيت مع وضوحها على كثير من الأدعياء، فهناك خلق كثير يدعون أنهم مسلمون، وأنهم على الحق، ولكن خفيت عليهم هذه الطريقة، فانحرفوا وتمسكوا بطرق ضالة، وزين لهم الشيطان أنهم على الهدى، فلا جرم أن كان أهل الحق وأهل السنة قلة قليلة بالنسبة إلى أولئك المنحرفين.
ولكن على الحق نور، فالذي يطلب الحق بإنصاف يجده، ولو أن أهل البدع والمحدثات طلبوا الحق برغبة وإنصاف لهُدُوا إليه ولما توقفوا في قبوله والانقياد له، ولكن سول لهم الشيطان أنهم على الحق وأن ما هم عليه من البدع والضلال هو الصواب، وحال بينهم وبين تأمل الأدلة والتعقل في دلالتها، وزين لهم أنهم أولى بالصواب من غيرهم.
وصدق كلام النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره أن أمته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأخبر أن الفرقة الناجية هم أهل الجماعة وفي رواية: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي فأهل السنة فرقة واحدة من تلك الفرق أما الفرق الأخرى المنحرفة فقد قيل: إنهم فرق أمة الدعوة، وقيل: إنهم فرق أمة الإجابة.
فعلى القول الأول: يدخل فيهم اليهود، والنصارى، والمشركون، والمنافقون، والصابئة، والوثنيون، والدروز، والهندوس، وما أشبههم.
وعلى القول الثاني: لا يدخل فيهم إلا من يدعي الإسلام، ويدعي اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، ويدخل فيهم الفلاسفة الإلهيون، ويدخل فيهم الباطنية، والقرامطية، ويدخل فيهم الأشاعرة، والمعتزلة، والقدرية، والشيعة الذين هم الرافضة، وإن كانت هذه الفرق بعضها أضل من بعض.
فإن الخوارج مثلا غلب عليهم التشدد؛ لذلك لما سئل عنهم علي رضي الله عنه فقيل له: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا وهؤلاء يذكرون الله كثيرا.
فالخوارج تشددوا تشددا كبيرا حتى أخرجوا المسلمين من الإيمان بالذنوب صغيرها وكبيرها، وحتى كفروا سادات الأمة واستحلوا دماءهم وأموالهم.
وعلى عكس الخوارج كانت المرجئة ؛ فقد تساهلوا تساهلا شديدا وقالوا: إن الإيمان مجرد الكلمة، وإن الأعمال لا تؤثر في الإيمان، فسووا بين إيمان أفجر رجل في الأمة وبين إيمان الصديق رضي الله عنه، وفتحوا باب الرجاء حتى جرءوا الناس على المعاصي والمخالفات.
فالحاصل أن هناك ثلاثا وسبعين فرقة، منها فرقة واحدة ناجية والباقون

في النار. فإذا قلنا إن هذه الفرق من أمة الإجابة كان هذا الحديث من أحاديث الوعيد، فإذا أدخلنا فيهم القدرية، مع كونهم يزعمون أنهم أهل العدل، وأدخلنا فيهم الوعيدية، وأدخلنا فيهم الجهمية والكرامية والكلابية وكثيرا من فرق المعتزلة، كان في ذلك تسرع ؛ فإن كثيرا منهم لا يؤخذ عليه إلا بدعة خاصة، ولهذا فإن بعض العلماء جعل الفرق التي في النار هي الغلاة، وأما المقاربون لأهل السنة فإنهم لا يخرجون بذلك عن كونهم أهل السنة.
فالحاصل أنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة الاختلاف والتفرق، كان ولا بد أن يكون أهل السنة طائفة من تلك الطوائف، وكان لا بد من معرفة ما هم عليه ، حتى يتمسك بطريقتهم، وكان لا بد أيضا من حدوث هذه الفرقة وكثرة الفرق الضالة.
ووصفهم النبي صلى الله عليه سلم بقوله: هم الجماعة وبقوله: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي فدل ذلك على أن الطائفة الناجية هم المتمسكون بالسنة، سواء كثروا أم قلوا، فقد تكثر هذه الطائفة في بعض الأزمنة وتقل في بعض حتى يكونوا أفرادا، وحتى يصبحوا غرباء بين الناس كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء؟ قال: الفرارون بدينهم من الفتن وفي رواية: الذين يصلحون عند فساد الناس وفي رواية: الذين يُصلحون ما أفسد الناس في سنتي وفي رواية: هم النُّزَّاع من القبائل أي يكون أفراد القبيلة كلهم منحرفين وعصاة إلا واحد أو اثنان في كل قبيلة.
وقد ألف ابن رجب رسالة في وصفهم سماها كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة يعني الغرباء الذين دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم: فطوبى للغرباء ونقل رحمه الله في ذلك آثارًا كعادته.
وتكلم عليهم كذلك ابن القيم في منزلة الغربة في كتابه مدارج السالكين .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية أيضا كلام جيد عنهم تجده في مجموع الفتاوى (جـ 18 / 291-305).
فالحاصل أن أهل السنة هي الفرقة الناجية وهي خير الفرق وأفضلها وأقربها إلى الصواب وأقواها حجة، وأصحها دليلا.
ومع ذلك فإننا نقول: ليس كل من انتمى إلى فرقة من الاثنتين والسبعين فرقة يكون هالكا، فإن فيهم الجاهل والمقلد، والتابع لعلماء بلده، والباحث عن الحق المجتهد في طلبه ولم يُوَفَّق إليه، فهؤلاء لا يدخلون في الحكم، ولكن على كل حال فهم ملومون حيث إن على كل إنسان أن يفهم الحق ويحكم به ويتتبع الأدلة، ولا يكون مقلدا مخافة أن يخطئ في تقليده.
فأهل السنة يقابلون أهل البدعة، ولا شك أن الرافضة مبتدعون، والجهمية مبتدعون، والمعتزلة مبتدعون، والجبرية الذين هم مقابل المعتزلة مبتدعون أيضا، فكل منهم ليس على السنة، وأهل السنة هم الذين تمسكوا بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم أهل الجماعة.
والكتب التي ألفت في الفرق كثيرة، منها كتاب الفَرق بين الفِرق ، وكتاب الأشعري مقالات الإسلاميين، وكتاب الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل لابن حزم وكتاب المِلل والنِّحَل للشهرستاني كلهم تكلموا عن هذه الفرق، وقد تصل هذه الفرق إلى الألف، وقصرها على ثلاث وسبعين فيه صعوبة.
وقرأت في أول كتاب ابن الجوزي الذي سماه تلبيس إبليس شرحا لهذا الحديث، ثم قسم الفرق إلى ست فرق، وجعل كل فرقة اثنتي عشرة. قال: انقسمت الرافضة إلى اثنتي عشرة فرقة، وانقسمت الجبرية إلى اثنتي عشرة فرقة، وانقسمت المعتزلة إلى اثنتي عشرة فرقة، وانقسمت الخوارج إلى اثنتي عشرة فرقة، وانقسمت الجهمية إلى اثنتي عشرة فرقة، وانقسمت القدرية إلى اثنتي عشرة فرقة أو كما قال.
ولا شك أن هذا الحصر فيه تحكم؛ لأن بعض الفرق قد تكون أقل من ذلك فإذا أراد أن يوصلها إلى ذلك العدد قد يأتي بفِرَق غير مشهورة وبأسماء غير معروفة، وبعضها أكثر من هذا العدد فيترك بعض الفرق ليصل العدد إلى ما أراده.
* قوله: (ومنهم الصديقون والشهداء والصالحون...):
ثم واصل الشيخ رحمه الله في ذكر بعض فضائل ومزايا أهل السنة فقال: وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة.
فأهل السنة منهم الصديقون والشهداء والصالحون الذين ذكرهم الله في قوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69].
وفي قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الحديد: 19] فالصديقون: هم المبالغون في التصديق، ورئيسهم أبو بكر رضي الله عنه، وكل الصحابة غالبا من أهل التصديق البالغ، كذلك الشهداء: ينطبق أيضا عليهم أنهم من الشهداء الذين يستشهدهم الله تعالى ويشهدهم على خلقه كما في قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143].
والصالحون: هم الذين أصلحوا أحوالهم وأعمالهم، بحيث استقاموا على الأعمال الصالحة، فصلحت أعمالهم وصلحت أحوالهم ونياتهم فوصفوا بأنهم صالحون.
وأما قوله: أعلام الهدى ومصابيح الدجى فالمراد بهم علماء الأمة الذين هم بمنزلة الأعلام، والأعلام في الأصل: الجبال كما في قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [الشورى: 32] يعني كالجبال، فجعل الله هؤلاء العلماء يقتدى بهم في المسائل وفي السنة.
فوصف المؤلف رحمه الله علماء الأمة الذين هم علماء السنة في كل زمان بهذه الأوصاف: بأنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجي، فالأعلام: هي الجبال الشامخة التي يقتدى بها، ويوصف المشهور أيضا بهذا كما في قول الخنساء في أخيها:
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنـه علـم فـي رأسـه نار

وكذلك مصابيح الدجى فالدجى: الظلمات، والذي يسير في الظلمات يتخبط في سيره ويتيه ما لم يكن معه مصابيح تنير له الطريق، فهؤلاء العلماء الذين حملوا العلم الصحيح بمنزلة السرج المضيئة في تلك الدياجير المظلمة.
وأما قوله: وفيهم الأبدال فكلمة الأبدال كلمة ابتدعتها الصوفية، وهذا المصطلح ليس له دليل على اصطلاح الصوفية؛ لأنهم يزعمون أن في الأرض أبدالا متى مات واحد استخلف واحدا يكون سببا في إصلاح الأمة وفي دفع العذاب عنها.
فعندهم: الأوتاد والأقطاب، والأبدال، أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، لكن كلمة الأبدال معناها صحيح، والمراد أن أهل الخير وأهل العلم يخلف بعضهم بعضأ، فإذا مات بعضهم أخرج الله بدلهم فيقومون مقامهم، وإذا مات علماء أهل الزمان، جعل الله بدلهم من يخلف مكانهم، ويكونون أبدالا يعني بدلا عمن سبقهم، هذا معنى كونهم أبدالأ، وإن لم يكن لها أصل في الشرع، لكن معناها صحيح مطابق من ناحية اللغة.
وذكرها على حسن النية لا بأس به، ولكن على اصطلاح الصوفية ليس لها أصل، وكذلك الأقطاب والأوتاد على اصطلاح الصوفية ليس لها أصل.
فالأقطاب: يقولون: إن القطب بمنزلة القطب الذي في السماء، والأوتاد: يقولون: إنهم سبب ثبوت الأرض، كالجبال التي أرسى الله بها الأرض وقد كانت تميل فأرساها بتلك الجبال.
والصوفية يقولون: إن هؤلاء هم سبب ثبات الأرض وكونها لا تميل ولا تضطرب ولا تتحرك.
أما إذا استعملنا كلمة أبدال بمعنى: أن أهل العلم والدين والخير والصلاح يخلف بعضهم بعضا، فلا بأس بذلك.
وكذلك وصفهم بأنهم الأئمة أئمة الدين يعني الذين يقتدى بهم فالإمام بمعنى القدوة، وبلا شك أن علماء أهل السنة أئمة وأهل قدوة يقتدى بهم في أعمالهم وفي سيرهم وسلوكهم، فلهم فضل على هذه الأمة.
ومن أشهرهم: أئمة المذاهب الأربعة، فإنهم كلهم على عقيدة واحدة، فلم يتفرقوا في العقيدة، عقيدتهم واحدة في أسماء الإيمان والدين، عقيدتهم واحدة في التصديق بالآخرة وما بعدها، عقيدتهم واحدة في الصحابة وما يقال فيهم، عقيدتهم واحدة في القضاء والقدر، عقيدتهم واحدة في القرآن، عقيدة الأئمة الأربعة واحدة.
وهكذا أهل زمنهم من الأئمة الآخرين؛ كالليث بن سعد وشعبة بن الحجاج والأوزاعي وحماد بن زيد وابن سلمة وسفيان الثوري وكذلك تلامذتهم كيحيى بن معين وعلي بن المديني ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ونحوهم، الذين حفظت أقوالهم وعقائدهم ودُوِّنَت أتم تدوين، منها ما كتبوه هم، ومنها ما كتبه تلامذتهم.
وهذا دليل على أن أهل البدع ما فشت بدعهم وتمكنت، إلا بعد أن مضى عهد أولئك السلف الصالحين، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم . يعني القرن الأول الذين هم الصحابة رضوان الله عليهم، والقرن الثاني وهم التابعون، والقرن الثالث وهم تابعو التابعين الذين رأوا التابعين، فهؤلاء هم أهل العلم والعمل، وبعدهم كثر الافتراق وتفرقت الأمة، وتشعبت إلى شعب كثيرة، فإذا أهل السنة حقا هم الذين تمسكوا بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وساروا على نهجهم.
الفرقة الناجية:
وهم الفرقة الناجية المنصورة الباقية إلى قيام الساعة فقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك هذه الفرقة هي أهل السنة وأهل الجماعة، هي الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، جعلهم فرقة لكثرة من خالفهم، ويعتبرون فرقة وجماعة واحدة، ولو كانوا متباعدين، قد يكون بعضهم في هذه البلاد، وبعضهم في بلاد أخرى بعيدة، لكن لما كان معتقدهم واحدا، أصبحوا طائفة واحدة، ولا يلزم أن تكون الطائفة مجتمعة في بقعة أو مكان، بل هم طائفة ولو تفرقوا.
النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة، أي منصورة بالحجة ومنصورة بالقوة، فحجتهم وأدلتهم قوية ينتصرون بها على من خالفهم، وكذلك يمدهم الله بقوة ينتصرون بها على عدوهم، ولو كان عدوهم أكثر عددا، وأكثر عددا.
فأهل السنة والجماعة هم الذين أخبر بأنهم منصورون، وبأنهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، والخذلان معناه التخذيل، أي لا يضرهم من حقرهم، ولا يضرهم مَن فَتَّ في أعضادهم وقال لهم: أنتم قلة، والناس كلهم ضدكم، ألا تسيرون كما يسير الناس؟ سيروا مع غيركم، افعلوا كغيركم، الناس قد تطوروا وتحضروا، وأنتم لا تزالون على عقيدة حدثنا وأخبرنا!! أنتم لا تزالون علي عقيدة الأولين وتتمسكون بها!!، الناس فكروا!! والناس نظروا!! وأنتم لا تزالون تقرءون في هذه الكتب الصفراء البالية!!
لا شك أن هذه تخذيلات، ولكنها لا تروج على هؤلاء الذين منحهم الله العقول الذكية فعرفوا الحق وآمنوا به وعملوا به.
وقد اختلف في هذه الطائفة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها باقية إلى قيام الساعة، فمن العلماء من قال.: هذه الطائفة هم العُبَّاد، أهل العبادة ، أهل التقشف، ومنهم من قال: بل هم الصوفية الزهاد الذين زهدوا في الدنيا، وجعلوا أعمالهم للآخرة، ولكن لا شك أن من يسمون صوفية عندهم بدع ومحدثات لا يليق بهم أنهم أهل السنة.
كذلك أيضا منهم من يقول: إنهم أهل الحديث، وهذا هو الأقرب، روي أن الإمام أحمد رحمه الله سئل: من هم هذه الطائفة الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم على الحق؟ فقال: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أعرفهم. ومراده بأهل الحديث أي الذين اشتغلوا بعلم الحديث، والذين اشتغلوا بالعمل به، فمن رُزِقَ العلم بالحديث، رُزِقَ أيضا التمسك به وتطبيقه، والعمل بإرشاداته وتعاليمه؛ لأن الحديث فيه بيان للقرآن، فالذين يحفظون الحديث ويعملون به هم أيضا يحفظون القرآن ويعملون به، فلا يتركون شيئا من أدلة الوحي إلا قبلوها وعملوا بها بعد التأكد من صحتها، فهؤلاء بلا شك أقرب أن يكونوا من الفرقة الناجية .
ومنهم من قال: إن الفرقة الناجية هم علماء السنة، أي العلماء الذين علموا السنة وحفظوها على الأمة، ويتبعهم كل من عمل بإرشادهم، بخلاف علماء البدعة ومن انحرف عن طريقهم بسبب دعايتهم فإنهم ليسوا من الفرقة الناجية.
وأنت تعرف أنه قد وقع في الأمة بدع كثيرة، وكل أهلها يدعون أنهم أهل حق وعلى طريق سوي، وأن الصواب في جانبهم، ولكن لا شك أن الحق أحق أن يتبع، فالحق هو ما وافقه الدليل، فإذا كان الدليل مع طائفة من الطوائف فإن العارف يتبعه ولو لم يكن في طائفته، ولو خالف مذهبه وطريقة إمامه وأهل زمانه.
بلا شك أن هناك من يكون عالما بالسنة، عالما بالأدلة، ولكن لا ينفعه علمه، يعلم ولا يعمل، فيكون علمه وبالا عليه وحجة عليه، ومثل هذا لا يتبع ولا يكون قدوة، حتى إنه يستنكر عليه العوام الذين لا يعرفون تفاصيل الأدلة.
فعرف بذلك أن الفرقة الناجية: أهل السنة والجماعة الذين هم منصورون إلى قيام الساعة، هم المتمسكون بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرهم شيخ الإسلام في أول هذه العقيدة وفي آخرها، بمعنى أن اعتقادهم هو اعتقاد واحد. قال في أول الرسالة: أما بعد فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة وهو الإيمان بالله... الخ.
وقال في آخرها: وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة يعني الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. ثم دعا الله تعالى بهذا الدعاء حيث رغب إلى الله تعالى أن يجعله- هو ومن عمل برسالته وسائر الكتب التي تدعو إلى السنة- من أهل السنة والجماعة، وهي دعوة شريفة على المسلم أن يدعو الله تعالى بها في كل حالاته، وهي أن يحشر مع أهل السنة؛ لأن الحشر معهم سبيل إلى النجاة وذلك يستدعي محبتهم، ولا شك أن محبتهم تستدعي تقليدهم والسير على نهجهم، فمن كان كذلك فإنه سيحشر معهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب .
والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.