جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف الإسلام خير الأديان نظافة وآدابا، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمرا إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه
الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
83701 مشاهدة
مسألة: الكلام في المشكل من النصوص

قوله:
( وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظًا وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعًا لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ( آل عمران: 7 ) .


شرح:
قد تأتي بعض الصفات مُشكَلة على بعض الناس فيفهم منها التشبيه، أو يفهم شيئًا لا يليق بالله تعالى، ففي هذه الحال نقبلها لفظًا ونعرف أن لها معنى، ولكن نتوقف في الكيفية، ونتوقف عن التقعر  في السؤال عن كيفيتها وننزهها عن أن تكون مماثلة لصفات المخلوق، أو أن يفهم منها نقص في حق الخالق.
وأكثر ما يحتج به النفاة من الأشاعرة ونحوهم في نفي الصفات، إذا أثبتناها لهم وقلنا: دل عليها القرآن فما دليلكم في النفي؟، فأكثر ما يحتجون به: أنها تحدث، وأنها تتجدد فيقولون: إن الله منزه عن حلول الحوادث، فلا تحل به الحوادث، وهذه أكبر شبهة عندهم، وهذه الجملة لا دليل عليها، فكلمة حلول الحوادث إنما هي اصطلاح اصطلح عليه هؤلاء النفاة، فجعلوه دليلا قاطعًا في نفي الصفات.
فنقول: ما الذي حملكم على أن تقولوا: ليس محلا للحوادث أو هو محل للحوادث أثبتوا الصفات واتركوا محل الحوادث، أو ليس محل حوادث وكلُوا أمرها إلى الله تعالى.
وقد يوجد بعض الصفات التي يُشكَل ظاهرها فيتوقف بعض أهل السنة فيها، ولكنهم يثبتونها حقيقة، وإذا أُوردت عليهم الإشكالات قالوا: ليس لنا تدخل في ذلك, فمثلا إذا قال النفاة: لو كان على العرش لكان أصغر من العرش، أو أكبر، أو مساويًا؛ وكل ذلك محال - هذا من افتراضاتهم - فنقول: ليس لنا أن نخوض في هذا بل نقول: إنه على العرش كما أخبر، ولكن لا نخوض في إشكالاتكم هذه ونحوها، الله - تعالى - أخبر عن نفسه بهذا وهو أعلم بنفسه.
ومثلا إذا ذكر النزول وذكر حديث: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا. الحديث , يوردون -أيضاً- إشكالاً؛ ويقولون: معلوم أن العرش فوق المخلوقات وهو سقفها، فعند نزوله؛ هل يخلو منه العرش؟ هل تحصره السماء الدنيا التي ينزل فيها؟ وإلى متى يستمر هذا النزول؟ وهل ينزل العرش معه؟
هذه الافتراضات لا حاجة إليها، ولا نتدخل فيها، هذه إشكالات أوردتموها أنتم ولا حاجة لنا في البحث عنها، نحن نثبت النزول، ولكن كيفيته الله أعلم بها - كما سيأتينا الكلام على النزول إن شاء الله.
كذلك من الصفات التي أدلتها صحيحة، ولكنها مشكلة؛ ومع هذا يجب أن تُثبت، وتفوض كيفيتها إلى الله؛ مثل حديث الصورة خلق الله آدم على صورته ... الحديث فقد كثر الكلام حوله حتى ألفت فيه مؤلفات مفردة، وأثبته الذين كتبوا فيه، فإذا أثبتنا أن الحديث صحيح، وأنه من أحاديث الصفات، قلنا: نثبته، ولكن نتوقف في كيفيته، ونقول: إن الله ليس كمثله شيء، وأنه - سبحانه - قد أخبر بهذا، وأخبر به رسوله، وليس لنا أن نتقعر في نفي ذلك.
وبكل حال ما أشكل من ذلك - كما قال ابن قدامة ( وجب إثباته لفظًا وترك التعرض لمعناه ) يعني: كيفيته، هذا هو الصحيح، أما معانيه اللغوية فإنها ظاهرة، ونجعل عهدته على ناقليه ونثق بهم ونقول: العهدة والمسئولية عليهم؛ وذلك لأنهم هم الذين نقلوا لنا السنة والشريعة، بل هم الذين نقلوا القرآن كله والأحاديث كلها؛ فكيف نرد هذا الحديث وحده، أو هذه السنة وحدها، فالذي نقلها هو الذي نقل غيرها من الأحكام، فنجعل عهدته على ناقله، أي: المسئولية عليه إن كان خطأ، ونكل علمه - يعني: الكيفية والماهية - إلى قائله؛ أي: إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا في الشيء الذي يشكل علينا في الكيفيات ونحوها.
هذه طريقة الراسخين في العلم؛ والرسوخ: هو التمكن، يقال: رسخ في كذا، يعني: تمكن فيه، فالراسخ: العالم الذي تمكن العلم منه وتمكن من العلم، والمراد بالعلم هنا العلم الصحيح الذي هو ميراث الأنبياء، فهو العلم الذي من علمه وفهمه وأحاط به سمي راسخًا في العلم.
والله - تعالى - مدح الراسخين في العلم، فقال تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ( آل عمران:7 )
قسم الله - تعالى - الآيات في أول سورة آل عمران إلى محكمات ومتشابهات، فأخبر بأن أهل الزيغ يتبعون المتشابه، وأن الراسخين يقبلون الجميع: يقبلون المتشابه ويقبلون المحكم، ويقولون: آمنا بالجميع، كلٌّ من عند ربنا، ويدعون الله فيقولون: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا ( آل عمران:8 ) أي: لا تجعلنا مثل الذين في قلوبهم زيغ - يعني: ميل وانحراف - فنضل عن سبيلك، دعوا الله دعوة صادقة وهم على صواب وعلى حق.
فطريقتهم أنهم يقولون: نؤمن بالمحكم ونعمل به، ونؤمن بالمتشابه ونقبله، ولكن لا نتقعر في معناه، ولا نرده ولا نتأوله، ولا نحمله على ما نفهمه من صفات المخلوقين فنكون ممثلين، ولا نتكلف في رده وإبطاله فنلحق بالمعطلين.