إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . الإسلام خير الأديان نظافة وآدابا، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمرا إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. شرع الله تطهير هذه الأعضاء وغسلها وتنظيفها عند القيام إلى الصلاة أو عند وجود حدث؛ حتى يصير المصلي نظيف البدن، وحتى يحصل له النشاط والقوة، وحتى يقبل على الصلاة بصدق ومحبة ورغبة
تفسير سورة الحجرات من تفسير ابن كثير
13449 مشاهدة
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) إلى قوله تعالى: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .


وهذه أيضا في وفد بني تميم، وكان معهم شيء من الجفاء وغلظ الطبع، لما وفدوا؛ ذكرنا أنهم جاءوا يفاخرون النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم من آثار ذلك جاءوا بشاعرهم وجاءوا بخطيبهم؛ فكان ذلك من اعتزازهم بأنفسهم وترفعهم على غيرهم؛ فلذلك ذكروا أنهم وقفوا عند بابه من الخارج، وأخذوا ينادونه ويقولون: يا محمد اخرج إلينا؛ فإن مدحنا زين وذمنا شين. ينادونه وهو في داخل حجرته، ويرفعون صوتهم بذلك، ويستحثون خروجه، ويستعجلونه، ويتكلمون .. فيه شيء من الجفاء؛ فنزلت فيهم هذه الآيات: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون .
ينادونه وهو في داخل حجرته، ولم يقتصروا على النداء فقط؛ بل أخذوا يقرعون الباب، وأخذوا أيضا يستحثون يقولون: اخرج إلينا، اخرج إلينا، إن مدحنا زين وذمنا شين. فخرج إليهم وهو يقول: ذلكم الله، ذاك الله. الله تعالى هو الذي مدحه زين إذا مدح أحدا؛ فإنه يدل على أنه من أهل السعادة ومن أهل الخير والفلاح وذمه شين ؛ أي: ذمه لما يذمه من الخلق يلحقه به شين وقبح وعذاب أليم.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى أنكر على هؤلاء الذين هم جفاة من جفاة الأعراب، في ذلك الوقت كانوا أعرابا؛ يعني: يرحلون ويتنقلون من مكان لمكان، ومن المعلوم أن جفاء الأعراب متمكن، أن الأعراب فيهم الجفاء المتمكن، وفيهم غلظ الطبع، وفيهم القساوة، ولا سيما إذا كان عندهم شيء من الفخر، ولهم شيء من الاعتزاز، وفي نظرهم أنهم أهل شجاعة وأهل كرم وأهل قوة وأهل منعة، وعندهم جنود وعندهم قوة ونحو ذلك.
لما كانوا كذلك افتخروا بهذا الفخر، وصاروا يرفعون أصواتهم بهذه الكلمات. الله تعالى ذكر أن جنس الأعراب معهم جفاء في قوله تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ يعني: أنهم أحرى بالجهل، أجدر وأحرى وأقرب أن يبقوا على جهلهم؛ وذلك لبعدهم عن العلم، وعن التعلم؛ فهم أحرى بأن يكونوا جفاة، وأحرى بأن يبقوا جهلة؛ لا يعلمون شيئا من حدود الله، ولا يعلمون شيئا من أوامره ونواهيه.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ النداء: هو دعاء الإنسان من بعيد أو من قريب، يقول قائلهم -العرب-
دعـوت لـمـا نابـنـي مســورا
فلبــى فلبــى يـدي مســور
دعوته: يعني ناديته، والنداء يسمى أيضا دعاء؛ في قول بعض الشعراء:
وداع دعـا يا من يجيب إلى النــدا
فلـم يستجبـه عنـد ذاك مجـيب
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة
لعـل أبي المغـوار منـك قـريب
الدعاء والنداء بمعنى، وكذلك قول الشاعر:
فقلـت ادعـي وأدعـو إن أنــدى
لصــوت أن ينــادي داعيــان
فسمى الدعاء نداء، فقوله: يُنَادُونَكَ يعني: يدعونك، يدعونه أيضا باسمه، وذلك دليل على غلظ طبعهم وجفائهم، ما قالوا: يا رسول الله، وقد أمر الله تعالى أن يدعى بصفته التي تميز بها؛ في سورة النور: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا أي: لا تنادوه باسمه العلم؛ لا تقولوا: يا محمد ؛ بل قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله؛ هكذا أدبهم الله تعالى وعلمهم، ولكن هؤلاء الأعراب لا شك أن معهم هذا الجفاء؛ فلأجل ذلك دعوه باسمه يا محمد .
يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ يعني: نفي العقل هاهنا؛ إما أن يراد نفي العقل كله؛ لا عقول لهم؛ معلوم أن عندهم عقولا، ولكن عقول معيشية أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ؛ يدل على أن فيهم من هم عقلاء، ولكن الأكثرية لغير العقلاء أي للذين عقولهم ناقصة.
ثم يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ يدل على أنهم ما صبروا؛ بل أخذوا يصيحون، ويكررون: يا محمد ؛ اخرج، يا محمد اخرج إلينا؛ يكررون ذلك؛ فدل ذلك على أن عندهم شيئا من الجفاء؛ لأنهم نشئوا في البوادي وفي البراري، وهذه عادة أهل البراري.
وكذلك أيضا كانوا أصحاب مواشي يسيرون خلف مواشيهم إبلهم وبقرهم ونحوها؛ يتبعون آثارها، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الذين يتبعون ذلك معهم غلظ الطبع؛ ثبت عنه أنه قال: إن الفظاظة وغلظ الطبع في الفدادين أصحاب الإبل، والسكينة في أصحاب الغنم فأكثر أولئك البوادي رعاة إبل، وصفوا في هذا الحديث بأنهم أهل فظاظة، وأهل غلظ طبع. الفظاظة: كون أحدهم فظا غليظ الطبع، والله تعالى قد نزه نبيه عن ذلك في قوله: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ؛ فكذلك هؤلاء كان معهم هذه الصفة؛ فلذلك ما صبروا.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ يعني: لو انتظروا كلمة واحدة. انتظروا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ جاء في الحديث أن الذي يستأذن؛ يستأذن ثلاث مرات، ولا يزيد. في الحديث: إذا استأذن أحدكم ثلاث مرات فلم يؤذن له؛ فلينصرف فيمكن أن هؤلاء كرروا الاستئذان: يا محمد يا محمد يمكن عشر مرات، أو عشرين مرة، وهم يستأذنونه ويقولون: اخرج إلينا؛ فلذلك ما صبروا. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ أي تكلموا بالثالثة أو الرابعة؛ اقتصروا على الثالثة ونحوها: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ولكنهم ما صبروا.
يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعدهم بالمغفرة مع ما حصل منهم من هذا الجفاء، وذلك دليل على أن الله تعالى تسبق رحمته غضبه ؛ كتب على نفسه: إن رحمتي غلبت غضبي وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بعض العلماء يقول: إن المغفرة والرحمة خاصة بمن استغفر وتاب، أو من كان أَهْلًا، لكن الآية دليل، دلالتها ظاهرة من سياقها على أنه يغفر لهم إذا استغفروا، يتوب عليهم إذا تابوا، يرحمهم إذا استرحموه؛ كما هذا هو واقع الأمة؛ كل من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه؛ فإن الله يتوب عليه، ويغفر ذنبه.
لعلنا نقف عند هذه الآية، ونكمل الباقي إن شاء الله في الأيام الآتية.
أسئـلة
س: سائل يسأل يا شيخ ويقول: ما رأيك فيمن يذكر عنده حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: لا تذكر هذا فهو قديم، وهل عليه كفارة؟
معنى ذلك: أن أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعمل بها؛ لكونها قد مضى عليها مثلا ألف وأربعمائة سنة في نظرهم؛ فلا تناسب هذا الوقت. إذا كان يعتقد أنه لا يجوز العمل بها لقدمها فذلك كفر، إنكار لشمولها؛ أحاديثه -صلى الله عليه وسلم- وسنته باقية يعمل بها إلى قيام الساعة.