إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) .
طلب العلم وفضل العلماء
12220 مشاهدة
منزلة العالم

وللعالم الذي يحمل هذا العلم منزلة رفيعة قد بُينت في عدة مواضع: من ذلك أن حملة العلم شهداء الله -تعالى- الذين أشهدهم على وحدانيته، وقرنهم بنفسه وبملائكته، اقرءوا قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ فأشهد نفسه على أنه الواحد لا إله إلا هو، وأشهد معه ملائكته، وأشهد أولي العلم خاصة، ولم يستشهد بأولي الجهل، ولا أولي التجاهل، ولا شك أن هذا شرف لك أيها العالم، شرف لأولي العلم؛ حيث قرن الله -تعالى- شهادتهم بشهادة الملائكة، وما ذاك إلا أنهم هم الذين عرفوا حق الله على عباده، وعرفوا أيضا وحدانيته، وعرفوا الأدلة الدالة على ذلك، وعرفوا ما خلق الناس لأجله، فنطقوا بهذه الشهادة وأعلنوا العمل بها، ودعوا الناس إليها، فلا جرم أن أصبحوا من شهداء الله -تعالى- على وحدانيته، وكفى بذلك شرفا وفخرا.
ومن الأدلة على فضل أهل العلم أنهم أهل خشية الله الذين يخشونه، ولا يخشاه غيرهم، اقرءوا قول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ سورة فاطر المعنى أن الخشية خاصة محصورة في أهل العلم دون غيرهم، أما أهل الجهل فلا تكون معهم الخشية المطلوبة المنجية من عذاب الله؛ ذلك لأن العالم يحمله علمه على مخافة الله، وعلى تقواه، وعلى التورع عمَّا حرمه، وعلى الإقدام على العبادة، وعلى التجاوب والتقبل لما جاءه عن ربه، وتحمله هذه المعرفة على شدة الخوف من الله دون غيره، وهذا ما جعل أهل العلم هم أهل خشية الله دون غيرهم.
والخشية عبادة من أنواع العبادات، بل هي من أجل العبادات. وقد ذكر الله أنها سبب لثواب عظيم وأجر كبير، ألا وهو دخول الجنة والنجاة من النار.
فقال -تعالى- في آخر سورة البينة: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي: هذا الثواب الجزيل كله لمن خشي ربه، أي: لأهل الخشية. ومن هم أهل الخشية؟ إنما يخشى الله من عباده العلماء، فأهل هذا الجزاء هم العلماء، هم الذين يحملهم علمهم على مخافة الله وعلى خشيته، وكفى بذلك ثوابا جزيلا.
كذلك كذب الله التسوية بينهم وبين غيرهم في قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وحذف الجواب لأنكم تعرفونه، والمعنى: لا يستوون، بل أهل العلم أفضل وأقدم وأرفع درجة وأكثر معرفة وأصوب عملا؛ حيث إنهم يعملون على بصيرة وبرهان، وأما الذين يعملون على جهل فأكثرهم أعمالهم مردودة، لا سيما إذا ظنوا أنهم على علم، وهم على جهل، وهو الجهل المركَّب، وقد يوصف بالجهل غير المركب وهو الجهل البسيط.