الحكم بالنار على من مات قبل الرسالة

السؤال: ورد بأن أهل الفترة يختبرون، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم حَكَمَ على بعض من مات قبل الرسالة بالنار فعندما سأله رجل عن أبيه فقال: أبوك في النار، ثم قال له: إن أبي وأباك في النار أخرجه مسلم برقم (203) في الإيمان، باب: "بيان أن من مات على الكفر فهو في النار..." من حديث أنس رضي الله عنه. فكيف حكم عليهم بأنهم من أهل النار مع أنهم ماتوا قبل مجيء الرسالة؟ أليسوا من أهل الفترة ؟ الجواب: وردت أحاديث كثيرة في امتحانهم في الدار الآخرة ذكرها ابن كثير في تفسير قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } و ابن القيم في كتابه: طريق الهجرتين في الطبقة الرابعة عشرة من طبقات المكلفين انظر هذه الأحاديث مفصلة في تفسير القرآن العظيم لابن كثير: (3/28-32). وفي طريق الهجرتين لابن القيم. وأشهرها حديث الأسود بن سريع الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { أربعة يحتجون يوم القيامة، رجل أصم لا يسمع، ورجل هرم، ورجل أحمق، ورجل مات في الفترة وفيه: فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسول أن ادخلوا النار، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما أخرجه الإمام أحمد (4/24). والبزار كما في كشف الأستار (3/2174). والطبراني: (1/841). وابن حبان (1827). عن الأسود بن سريع رضي الله عنه، قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (1434): رواه الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع مرفوعا. ثم رواه عن أبي هريرة وقال في آخره: فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها رد إليها } أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/24). وابن أبي عاصم في السنة: (404)، والبزار كما في كشف الأستار (3/2175). وابن جرير الطبري (15/54). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال العلامة الألباني (1434): إسناده صحيح. .  ومنها حديث أبي سعيد الخدري رواه محمد بن يحيى الذهلي والبزار عن عطية العوفي عنه، قال: { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الهالك في الفترة، والمعتوه والمولود قال العلامة الألباني: المولود: المقصود به من كان أبواه من الكفار. السلسلة الصحيحة: (5/605) عند الحديث رقم (2468). يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب، ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا، ويقول المولود: رب لم أدرك العقل، فترفع لهم نار فيقال لهم: ردوها، قال: فيردها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل، فيقول: إياي عصيتم فكيف لو أن رسلي أتتكم أخرجه البزار كما في كشف الأستار (3/2176). وابن عبد البر في التمهيد (18/17) وانظر السلسلة الصحيحة للعلامة الألباني (5/604) رقم (2468). وفي رواية البزار فكيف برسلي بالغيب } قال البزار لا يعرف إلا من طريق عطية عنه. ومنها حديث معاذ بن جبل ذكره عن محمد بن المبارك الصوري بإسناده عنه مرفوعا: { يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا، وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا، فيقول الممسوخ: يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد مني، وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك، فيقول الرب عز وجل: إني آمركم بأمر فتطيعوني فيقولون: نعم، فيقول: اذهبوا فادخلوا النار، قال: ولو دخلوها ما ضرتهم، فتخرج عليهم قوابض فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعا ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك، فيقول الرب عز وجل: قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون، ضميهم، فتأخذهم النار } أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (18/129). وأخرجه الطبراني في الأوسط والكبير (20/158) وانظر السلسلة الصحيحة للعلامة الألباني: (5/605) رقم (2468). وفي إسناده ضعف، لكن يتقوَّى بالشواهد والطرق الأخرى والأحاديث التي ذكرها ابن كثير وغيره،فهذه الأحاديث بمجموعها تثبت جنس الامتحان في يوم القيامة، حتى لا يعذب الله تعالى من لا يستحق العذاب.  وقد نقل ابن القيم انظر: طريق الهجرتين لابن القيم. و ابن كثير انظر تفسير القرآن الكريم لابن كثير: (3/31). عن ابن عبد البر أنه قال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء، وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها اهـ، وأجاب ابن القيم بوجوه: منها : أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها، بل صححوا بعضها، فحديث الأسود رواه أحمد و إسحاق و ابن المديني فهو أجود من كثير من أحاديث الأحكام، ومنها : أن أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة، فدل على أنهم عملوا بالأحاديث، وذكر البيهقي في الاعتقاد له انظر كتاب الاعتقاد للبيهقي صفحة: (88-92). أن بعض الأئمة نصوا على الامتحان، وقالوا: لا ينقطع إلا بدخول دار القرار، ومنها : ما في الصحيح: في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وأنه يعطي ربه عهودا ومواثيق أن لا يسأل غير ما سأل، ثم يسأل، فيقول الله له: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك أخرجه البخاري برقم (806) في الأذان باب: "فضل السجود" وأخرجه أيضا برقم (6573) و(7437). ومسلم برقم (182) في الإيمان، باب: "معرفة طريق الرؤية". من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. فالغدر مخالفة للعهد الذي عاهد عليه ربه. ومنها : قوله تعالى: { وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } فهو صريح في أن الله يدعوهم إلى السجود في القيامة، وأن الكفار لا يستطيعونه إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى، فأما الذين جزم لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم من أهل النار، فلعله قد اطلع على ذلك كما تقدم أنه رأى عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، أي أمعاءه؛ لأنه أول من غيَّر دين إبراهيم وهكذا قوله في حديث ابن مسعود عند أبي داود { الوائدة والموؤودة في النار } أخرجه أبو داود برقم (4717) في السنة، باب: "في ذراري المشركين". ، وفي رواية: { إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم } ذكره ابن كثير وقال: إسناده حسن انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/32). .   وحيث إن مشركي العرب عندهم بقية من دين إسماعيل ولكنهم قلدوا آباءهم في الكفر وعبادة الأصنام، فلا مانع من تعذيبهم على ذلك، والحكم عليهم بأنهم من أهل النار، فإن كان منهم من لم تقم عليهم الحجة، وعاش في جهل وَبُعْدٍ عن شرع الله، ولم يتمكن من البحث عن الدين الصحيح، فله حكم أهل الفترة، وحكم أولاد المشركين. وأما من كان قادرا على البحث وقد أعطاه عقلا وإدراكا وعنده آثار وبقايا من دين إبراهيم و إسماعيل وأصر على عبادة غير الله وهو يعترف بأن الله تعالى هو الرب خالق كل شيء، بما تلقاه عن آبائه وأجداده، ومع ذلك يخلص العبادة لله وحده إذا كان في لجة البحر يشير الشيخ بذلك إلى قوله تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا).[سورة الإسراء، الآية:67.] ويعلم أنه لا ينجي منه إلا الله تعالى، ثم يعود إلى الشرك، كما هو حال مشركي العرب، فلا مانع من أن يجزم لهم بأنهم من أهل النار إذا ورد فيهم حديث ينص على ذلك، والله يحكم بين عباده، ولا يظلم ربك أحدا، ولا يعذب إلا من يستحق العذاب، ويعترف على نفسه كما حكى الله عنهم قولهم: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } .  فهذا ما ظهر لي، ومن لديه جواب غير هذا وله وجه من النظر فله أن يقول به، وقد كتب السيوطي رسالة في نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وهي مطبوعة في الحاوي ، ولكنه تكلف فيها وردَّ الأحاديث الصحيحة، وأنكر عليه شيخنا عبد العزيز بن باز وغيره، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.