الفصل الثاني في فضل بناء المساجد وعمارتها

بعد أن عُرف فضل هذه المساجد وشرفها، فقد ورد ما يدل على فضل بنائها وعمارتها الحسية والمعنوية، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عثمان -رضي الله عنه- أنه قال لما بنى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنكم أكثرتم عليّ، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: { من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة } وفي رواية: { بنى الله له في الجنة مثله } هو في صحيح البخاري كما في الفتح برقم 450، وقد توسع في شرحه وذكر له شواهد كثيرة، وكذا رواه مسلم برقم 533 في المساجد، والترمذي رقم 318 وغيرهم. . وعن أنس رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: { من بنى مسجدا صغيرا أو كبيرا بنى الله له بيتا في الجنة } (رواه الترمذي) هو في سننه برقم 319 وهو عنده بصيغة التمريض، لكنه ذكر أن في الباب عن أبي بكر وعمرو وعلي حتى عدَّ ثلاثة عشر صحابيا، ورواه أبو يعلى في مسنده برقم 4018 وضعفه المعلق ثم رواه برقم 4298 بإسناد آخر. وعن عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { من بنى لله مسجدا ليذكر الله فيه بنى الله له بيتا في الجنة } (رواه النسائي ) هو في سننه المجتبى 2\ 31 وهو حسن بشواهده. . وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: { من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة } (رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه) هو في سنن ابن ماجه برقم 735 عن عثمان بن عبد الله بن سراقة العدوي عن عمر وهو جده لأمه، ولم يسمع منه، فلعله سمعه من أحد أخواله أبناء عمر رضي الله عنه، وكذا رواه ابن حبان كما في الإحسان برقم 1606، وقد رواه الحاكم في المستدرك، وعنه البيهقي في السنن الكبرى. . وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { من بنى لله مسجدا من ماله بنى الله له بيتا في الجنة } [رواه ابن ماجه ] في سننه برقم 737 من طريق الوليد بن مسلم، وهو مدلس عن ابن لهيعة وفيه ضعف. . وله عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: { من بنى مسجدا لله كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة } [وإسناده صحيح] كما في سننه برقم 738، وصحح إسناده البوصيرى في مصباح الزجاجة 1\ 94. . وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا أوسع منه في الجنة } [رواه أحمد وفيه الحجاج بن أرطاة متكلم فيه] هو في المسند 2\ 221 برقم 7053، وصحح إسناده أحمد شاكر برقم 7056 ونقل كلام الهيثمي. . وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: { من بنى مسجدا فصلى فيه بنى الله -عز وجل- له في الجنة أفضل منه } [رواه أحمد والطبراني وفيه: الحسن بن يحيى ضعفه الدارقطني ووثقه أبو حاتم ) هو في المسند 3\ 490 برقم 15985 وذكره في مجمع الزوائد 2\ 7 وانظر ترجمة الحسن في الميزان برقم 1958. . وعن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: { من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتا في الجنة } [رواه أحمد والبزار وفيه: جابر الجعفي وفيه ضعف] هو في المسند 1\ 241، وكشف الأستار برقم 402، قال البزار: " لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، وجابر تكلم فيه جماعة ولا نعلم أحدا قدوة ترك حديثه اهـ. وضعف إسناده أحمد شاكر في المسند برقم 2157 لضعف جابر، وذكره في الميزان برقم 1425 ورجح ضعفه وتشيعه. وقد رواه أبو يعلى برقم 2534 من طريق شريك عن سماك عن عكرمة، وضعفه المحقق ولعله لأجل شريك، ولكنها متابعة قوية. . وعن أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: { من بنى لله مسجدا قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة } [رواه البزار والطبراني في الصغير، والبيهقي وابن حبان في صحيحه، كما في الإحسان من طريق الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه، قال في مجمع الزوائد: ورجاله ثقات) ذكره في كشف الأستار برقم 401 من طريقين عن الأعمش، وفي الإحسان 1608 وسنن البيهقي 2\ 437، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2\ 7 قال: ورجاله ثقات. . وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة } [رواه البزار والطبراني وفيه: الحكم بن ظهير وهو متروك] هو في كشف الأستار برقم 403، قال البزار: "لا نعلمه إلا عن ابن عمر بهذا الإسناد، و" الحكم " ليِّن الحديث، وقد روى عنه جماعة " اهـ. وذكره الهيثمي في المجمع 2\ 7 قال: "وفيه الحكم بن ظهير وهو متروك". . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { من بنى بيتا يعبد الله فيه من مال حلال بنى الله له بيتا في الجنة من در وياقوت } [رواه الطبراني في الأوسط والبزار وفيه: سليمان بن داود اليمامي وهو ضعيف] هو في كشف الأستار برقم 405، قال البزار: "سليمان لا يشارك في حديثه، وأحاديثه تدل على ضعفه إن شاء الله، وهو ليس بالقوي" اهـ. وذكره في مجمع الزوائد 2\ 8 قال: وفيه سليمان بن داود اليمامي وهو ضعيف. . وعن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة } قالت: وهذه المساجد التي في طريق مكة؟ قال: (وتلك) [رواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه: كثير بن عبد الرحمن ضعفه العقيلي وذكره ابن حبان في الثقات] هو في كشف الأستار برقم 404. قال في مجمع الزوائد: "رواه البزار والطبراني في الأوسط، وفيه: كثير بن عبد الرحمن، ضعفه العقيلي وذكره ابن حبان في الثقات " اهـ. . وعن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: { من بنى لله مسجدا لا يريد به رياء ولا سمعة بنى الله له بيتا في الجنة } [رواه الطبراني في الأوسط، وفيه المثنى بن الصباح ضعفه القطان ووثقه ابن معين في رواية، وضعفه في أخرى] هكذا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2\ 8 وما في إسناده. . وعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة } [رواه الطبراني في الأوسط، وفيه: وهب بن حفص وهو ضعيف] هكذا في مجمع الزوائد 2\ 8، وقد أشار إليه الترمذي في سننه. وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: { من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة } [رواه الطبراني في الأوسط وفيه المثنى بن الصباح ضعفه القطان ووثقه ابن معين في إحدى الروايات) هكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2\ 8، وانظر ترجمة المثنى في الميزان برقم 7061، وقد رجح ضعفه. . وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { من بنى لله مسجدا يراه الله بنى الله له بيتا في الجنة، فإن مات من يومه غفر له، ومن حفر قبرا يراه الله بنى الله له بيتا في الجنة، وإن مات في يومه غفر له } [رواه الطبراني في الأوسط، وفيه: عمران بن عبيد الله قال البخاري فيه نظر، وضعفه ابن معين وذكره ابن حبان في الثقات] هكذا ذكره الهيثمي في المجمع 2 \ 8، وعمران ذكره في الميزان برقم 6292، وسمى أباه عبد الله. . وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { من بنى لله مسجدا بنى الله له في الجنة أوسع منه } [رواه الطبراني في الكبير، وفيه: عدي بن يزيد وهو ضعيف] كذا في مجمع الزوائد 2\ 8، وعلي بن يزيد لعله الألهاني أو الصدائي ذكرهما الذهبي في الميزان. . وعن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة } [رواه الطبراني ورواه أحمد بلفظ: { فإن الله يبني له بيتا أوسع منه في الجنة } ورجاله موثوقون] هو في المسند برقم 27599 عنها في 6\ 461، وذكره في المجمع 2\ 8، وعزاه هنا للطبراني ووثق رجاله. . وعن نبيط بن شريط قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة } [رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وشيخ الطبراني فيه كذبه صاحب الميزان] هكذا في مجمع الزوائد، وهو في المعجم الصغير: حدثنا أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط الأشجعي حدثنا أبى عن أبيه إبراهيم عن أبيه نبيط قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:- فذكر أحاديث منها هذا الحديث، ثم قال الطبراني: لا تروى هذه الأحاديث عن نبيط إلا بهذا الإسناد، تفرد بها ولده عنه" اهـ. المعجم 1\ 30، وذكره في الميزان برقم 296، وقال: "لا يحل الاحتجاج به فإنه كذاب" اهـ. . وعن أبي قرصافة أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: { ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها، فمن بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة. قال رجل: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذه المساجد التي تبنى في الطريق؟ قال: نعم، وإخراج القمامة منها مهور الحور العين } [رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده مجاهيل] هكذا قال لي مجمع الزوائد 2\ 9، وهو في المعجم الكبير للطبراني 3\ 19 برقم 2521، قال في التعليق: ورواه الضياء في المختارة، وهو حديث ضعيف. . هكذا أورد هذه الأحاديث أو أكثرها المنذري في الترغيب والترهيب، والهيثمي في مجمع الزوائد، ومجموعها يدل على أن الحديث متواتر حيث رواه ثمانية عشر من الصحابة، وبعضهم روى حديثين كابن عباس وعائشة وأبي هريرة رضي الله عنهم، وما في بعضها من الضعف ينجبر برواية الآخرين، فيدل على القطع بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رغب في بناء المساجد. وقد اشترط في أكثرها أن يكون البناء لله تعالى، أي: يريد به وجه الله والدار الآخرة، لا يريد به رياء ولا سمعة، ولا يتمدح به، ولا يمن به على المصلين، وإنما يقصد الأجر من الله تعالى، وذلك شرط ثقيل، وعلامة ذلك أن يخفي نفسه، أو لا يحب ذكر فعله على وجه الإعجاب بعمله، وقد جعل ثوابه على ذلك أن يبنى الله له بيتا في الجنة، وهذا أجر عظيم، فقد ورد أن { موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها } كما رواه البخاري برقم 2892 عن سهل بن سعد، وله عن أنس برقم 2796 نحوه. . وقوله في بعض الأحاديث: { ولو كمفحص قطاة } أي: الموضع الذي تصلحه من الأرض لبيضها، ولكنه أراد المبالغة في الصغر، حتى لا يحتقر أحد ما بناه من المساجد ولو في غاية الصغر، وقد يدخل في ذلك من ساهم في بنائه ولو باللبن أو الطين، أو عمل فيه بيده، أو دفع أجرة العاملين، ونحو ذلك من العمل الذي ينسب إلى صاحبه أنه ساعد في بناء المسجد بنفسه أو ماله، احتسابا وطلبا للأجر المرتب على ذلك، وهو أن يبني الله له مثله، أو أوسع منه في الجنة. حيث إن البيت في الجنة لا يقاس بما في الدنيا، ولا نسبة بينهما، وذلك مما يدفع من وسع الله عليه إلى المسارعة في الخيرات، واغتنام الفرصة في هذه الحياة، فيقدم لآخرته ما يجد ثوابه مضاعفا عند ربه أضعافا كثيرة. ثم إنه يستحب عدم الزخرفة والتباهي في المساجد، فقد ذكر البخاري عن أنس قال: { يتباهون بها ثم لا يعمرونها } كما في فتح الباري 1\ 539. [وهذا الحديث رواه أحمد والدارمي وابن ماجه وغيرهم بلفظ: { لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد } وفي رواية: { يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ولا يعمرونها إلا قليلا } اللفظ الأول رواه أحمد 3 \ 230، 134، 145 برقم 12364،12457، 12521 وغيرها. وكذا رواه أبو داود برقم 449، والنسائي 2\ 32، وابن ماجه برقم 739 والدارمي 1\ 327، وغيرهم. واللفظ الثاني رواه ابن خزيمة برقم 1321، وأبو يعلى برقم 2817، وحسن إسناده المحقق وصحح اللفظ الأول. ]. وروى ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه مرفوعا: { ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم } هو لابن ماجه برقم 741، قال في الزوائد: في إسناده أبو إسحاق كان يدلس، وجبارة كذاب أي: شيخ ابن ماجه. . وذكر البخاري عن ابن عباس قال: { لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى } كذا في فتح الباري 1\ 539 وقد ذكره أبو داود بعد الحديث رقم 448، ورواه ابن ماجه برقم 740 مرفوعا بلفظ: " أراكم ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها، وكما شرفت النصارى بيعها " وجبارة شيخ ابن ماجه كذاب. . ولابن حبان وأبي داود عن ابن عباس مرفوعا: { ما أمرت بتشييد المساجد } هو في سنن أبى داود برقم 448، وسكت عنه. ورواه ابن حبان كما في الإحسان 3\ 70 بنحوه. . قال البخاري وأمر عمر ببناء المساجد، وقال: "أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس" كذا في فتح الباري 1\ 539، ولم يخرجه الشارح. . وقد كثر التباهي في هذه الأزمنة بالمساجد، وأسرفوا في زخرفتها وكثرة الإنفاق عليها، وقد أفتى المشايخ بجواز تشييدها إذا شيدت المساكن والمنازل، حتى لا تكون المساجد مشوهة حقيرة بالنسبة إلى البيوت والمنازل، لكن بدون الإسراف والمبالغة في الزخرفة والرفع، وكثرة الإنفاق والألوان والأصباغ، والتنوع في ما يصرف فيها من الخزف والبلاط، والفرش مما لا حاجة إليه، فهناك مساجد بحاجة إلى أدنى عمارة.